The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi
The Greatest Master Muhyiddin Ibn al-Arabi

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

الشيخ صدر الدين القونوي

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص

للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي

وهو شرح لكتاب النصوص للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي

النص الحادي عشر

 

 


قال رضي اللّه عنه : [ نص جلي وضابط كلي يفيد معرفة المطاوعة والإجابة الإلهيتين وإباء هما ] .

لما فرغ عن بحث القابلين شرع في بحث من يجاب منهم ومن لا يجاب ، ولما كانت الإجابة مشبهة بامتثال الأمر بمشابهة الدعاء بالأمر في الصيغة ، سمّاها مطاوعة على الاستعارة التحقيقية ، ثم فسرها بالإباء لدفع الوهم ، وقد ورد بهذه الاستعارة الحديث المذكور بعد ، والسر في ورودها التنبيه على علو مرتبة المطيع بأنه يصير مطاعا لمن يطيعه الكل طوعا أو كرها ، وهو وإن كان مجازا يفيد زيادة رغبة في الإطاعة الموجبة لذلك ، وذكر أن هذا النص جلي تنبيها على أنه لا يحتمل التشكيك بعد قبول بعض الأدعية ، فلذلك قال تصريحا بهذا المعنى وضابط كلي ، وأكد بلفظ كلي مع أن الضابط لا يكون إلا كليّا ؛ ليدل على أنه لا خلاف بوجه من الوجوه .

وإنما قال : يفيد ، ولم يقل في معرفة التصريح بأن هذه المعرفة لازمة لهذا الضابط كالنتيجة للقياس زيادة في التأكيد وذكر إباءهما أيضا ؛ لأن الشيء كثيرا ما يعرف بضده .

قال رضي اللّه عنه : [ اعلم أن الميزان التام الصريح والبرهان الذوقي المحقق الصحيح في معرفة متى يكون العبد من المطيعين لربه ، ومتى تسرع إليه الإجابة الإلهية في عين ما يسأله فيه دون تعويق ولا تأخير ، هو صحة المعرفة وكمال المطاوعة ، فالأصح معرفة بالحق والأصح تصورا له تكون الإجابة إليه في عين ما سأل فيه أسرع ، والأتم مراقبة لأوامر الحق ، ومبادرة إليها بكمال المطاوعة ، يكون مطاوعة الحق له أيضا أتم من مطاوعته سبحانه لغيره من العبيد ] .

الميزان اسم لما يمكن أن يعرف به مقدار الشيء في الثقل والخفة ، والبرهان اسم للقياس المركب من الأقيسة على هيئة منتجة ، واستعير للقاعدة المذكورة إشعارا بأنها لا تحتمل الزيادة والنقصان والتشكيك ، ووصف الميزان بالتام ؛ لأن الناقص لا يدل على المقدار بحيث لا يحتمل الزيادة والنقصان وبالصريح ؛ لأن من الميزان ما لا يعرف كونه على وجه الكمال والصحة ، بل يكون أمره مشتبها ، فبيّن أنه لا نقصان فيه ولا اشتباه ، وإن كان ببعض البديهيات يحتمل التشكيك بحسب العبارة ، وإن لم يحصل به الشك في قلب السامع كشبهات السوفسطائية والسفيه في البديهيات والنظريات .

ووصف البرهان بالذوقي ؛ ليشعر بأن مقدماته وإن لم تكن محسوسة فهي محدوسة ، ولما كان في الحدس احتمال اشتباه ، وصفه بالمحقق ، ولما كان في المغالطات ما يشبه البرهان ، وصفه بالصحيح .

وإنما بالغ هذه المبالغة في تشبيه القاعدة المذكورة بالميزان والبرهان ، لما ذكرنا من كثرة الداعين مع قلة الإجابة حتى توهم من ذلك أنه لا يمكن ضبط ما يفيد معرفة محل الإجابة .

وإنما قال هنا : في معرفة متى يكون العبد من المطيعين لربه ، وقد قال : أولا في معرفة المطاوعة والإجابة الإلهيين ؛ لأن إطاعة العبد ملزومة لطاعة الحق ، والمطلوب إثبات اللازم ، فذكر أولا ما هو المطلوب ، وثانيا قدم ذكر وجود الملزوم ليدل على وجود اللازم ، ولم يفعل ذلك في الإجابة ؛ لأنها ليست ملزومة للمعرفة ، إذ قد يحصل بدونها عند الاضطرار ، فأبقاها على المنهج الأول وقيد الإجابة بكونها في عين ما يسأله ؛ لأن الإجابة المطلقة حاصلة لكل معين إما بالقول ، وهو لبيك عبدي ، وإما بالفعل مؤخرا ومفوضا عن المسؤول عنه في الحال ، أو مؤخرا وجعل سبب الإجابة صحة المعرفة ، وسبب المطاوعة الإلهية كمال مطاوعة العبد على اللف والنشر المشوش .

وإنما جعل كذلك ؛ لأن مرتبة المطاوعة أعظم ، فقدمها أولا ، والإجابة بالنسبة إليها كالمفرد من المركب ، فقدمه ثانيا .

ولما كان في العبارة هاهنا نوع اشتباه فصله ، فقال : فالأصح معرفة بالحق ، ولما كانت المعرفة تستعمل في التعقل غالبا ، فسرها بقوله : “ والأصح تصورا له “ ، وإنما أورد هما ؛ لئلا يتوهم من التصور أنه له تعالى صورة يتقيد فيها ، تكون الإجابة الإلهية في عين ما سأل فيه أسرع ، وذلك بأن يراه في كل شيء غير انحصار ، ولا حلول فيها ولا اتحاد بها ، والأتم مراقبة لأوامر الحق بأن ينظر على عباراته وإشاراته ، ويأخذ بالأحوط والعزائم منها ، والنواهي داخلة ؛ لأن المنهيات تركها مأمور ومبادرة إليها بالفعل كمال المطاوعة بأن يكون على الاجتهاد الكامل يكون مطاوعة الحق له أيضا أتم من مطاوعته سبحانه لغيره من العبيد ، سواء كانوا أعداءه ، فلم يكن الحق مطيعا لهم أصلا .

قال رضي اللّه عنه : [ ولهذا كان مقتضى حال الأكابر من أهل اللّه أن أكثر أدعيتهم مستجابة

لكمال المطاوعة وصحة المعرفة باللّه ، والتصور له وإليه الإشارة بقوله :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ، فالعديم المعرفة الصحيحة الشهودية النسبي التصور ، ليس بداع للحق الذي ضمن له الإجابة بقوله له :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ، وإنما هو متوجه في دعائه إلى الصور الشخصية في ذهنه الناتجة من نظره وخياله ، أو خيال غيره ونظره ، أو المتحصلة من مجموع المشار إليه ] .

فلهذا يحرم من هذا شأنه الإجابة في عين ما سأل فيه ، أو يتأخر عنه أعني الإجابة ، استدل بالواقع ، ثم بالنص القرآني على القاعدة المذكورة ، أي ولأجل أن كمال المعرفة موجبة للإجابة وكمال المطاوعة موجبة للمطاوعة ، وكان مقتضى حال الأكابر من أهل اللّه أن أكثر أدعيتهم مستجابة .

إنما جاء بلفظ الأكثر ؛ لأنه المعلوم قطعا ، ولم يعلم بالاستقراء التام استجابة جميع أدعيتهم حتى يتم الاستدلال بالاستقراء التام ، بل هو استدلال بالاستقراء الناقص ، ثم أشار إلى وجه الاستدلال بقوله لكمال المطاوعة ، وهو المعرفة باللّه والتصور له ،

أي : لاستجماعهم شرط الإجابة مع شروط المطاوعة التي هي أزيد من الإجابة ، وكيف لا يحصل لهم ، وإنما قدم المطاوعة هنا ؛ لينبه على أن كمال المعرفة إنما يتم بها ، وأعاد قوله والتصور ؛ لئلا يتوهم أن المراد إدراكهم إياه من جهة صفاته كما يشعر به المعرفة . ولما كان الاستدلال بالاستقراء الناقص ناقص الدلالة ، استدل بالنص القرآني هو قوله عز من قائل : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ،

وجه الاستدلال أن منطوقه يدل على أن من توجه إليه بالتصور الصحيح ، إجابة الحق من غير شرط آخر ، وقد دل بمفهوم المخالفة أن عدم المعرفة الصحيحة ، وهي المعرفة الشهودية أي : التي يشهد بها الحق في كل شيء من غير تقيد بها ، ولا حلول فيها ، ولا اتحاد معا ليس بداعي الحق ، فلا يلزمه المضمونة ، بقوله :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ غافر : 60 ] ، وإنما أعاده ؛ لأنه قد يستجاب المضطر

......................................................................

( 1 ) أي : ادعوني في زمان الدعاء الذي جعلته خاصا لإجابة الدعوة ، فادعوني في تلك الأوقات ،أَسْتَجِبْ لَكُمْ؛ فإن وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك ، ومن لم يعرف أوقات الدعاء فدعاؤه ترك أدب ؛ فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات ، فإن السلطان إذا كان غضبانا ل

بوعده قوله : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ [ النمل : 62 ] ، وتلك الإجابة مشروطة بالاضطرار لا بنفس الدعاء كهذه ، ثم قال : وإنما يتوجه عديم المعرفة إلى الصورة المشخصة في ذهنه ، ضرورة أنه متوجه إلى صورة ، ولما لم تكن مطابقة للحق بالضرورة ، فليست هي الموجبة للإجابة على الإطلاق .

ثم ذكر أن هذه الصورة هي حاصلة من نظره الفكري ، أو من خياله ، أو حاصلة من خيال غيره أو نظره ، وقدم النظر في حقه وعكس في حق الغير ؛ لأن من حق طالب الحق أن يقدم نظره الفكري ، فينظر فيما يليق به وما لا يليق به ، والمقلّد إنما ينظر إلى خيال الغير ثم على نظره ؛ لأنه لو نظر إلى نظره أولا لكان الأولى أن ينظر إلى نظر من هو أعلى منه ، لكن لغلبة الخيال عليه في خيال الغير ، ثم يستحسن نظره الفاسد أو تشخصه تلك الصورة من خياله ونظره وخيال الغير ونظره ، بأن يليق لهما ، ثم يعتقد في ذلك ، فيتقوى بذلك اعتقاده الفاسد .

وإنما ذكر هذه الصورة الفاسدة ، للاحتراز عنها بكل حال ، ثم قال : فلهذا أي :

ولأجل أنه ليس بداعي الحق بل هو متوجه إلى صورة خياله إلى آخره ، يحرم من هذا شأنه الإجابة في عين ما سأل ، بل يتعوض له بحس مقتضى تلك الصورة ، وولاية ما يرى بها من الأسماء الإلهية .

وإنما قال : أعني الإجابة ؛ لئلا يتوهم الإجابة في عين ما سأل ، ويفهم منه أنه لا يخلو عن إجابة ما ؛ لأنه داعي الحق بوجه من وجوهه .

قال رضي اللّه عنه : [ ومتى أجيب مثل هذا ، فإنما سببه سر المعية الإلهية المقتضية عدم خلو شيء

......................................................

يسأل عنه ، وإذا كان مستبشرا فيكون زمانه زمان العطاء والفضل ، ومن عصى السلطان ، ويسأل منه شيئا فيضرب عنقه ، ومن يطع السلطان ثم يسأل ؛ فإنه أجدر أن يعطيه مأموله ، وأيضا ادْعُونِي في وقت غليان قلوبكم بالشوق إلى لقائي ، أَسْتَجِبْ لَكُمْ بكشف جمالي ، وأعطيكم مأمولكم

لذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : “ ادعوا اللّه على رقة قلوبكم “ . وأيضا ادعوني بلا سؤال أَسْتَجِبْ لَكُمْ بلا محال ، فإنك إذا شوقت إلى جمالي تدعوني لنفسي ، فوجب من حيث الكرم أن أجيب لك بنعت مرادك ، فإنك إذا سألت شيئا لم تدعني بل دعوت مرادك .

قال بعضهم : ادْعُونِي بلا غفلة ، أَسْتَجِبْ لَكُمْ بلا مهلة .

عن الحق أو الجمعية التامة الحاصلة للمضطرين الموعود لهم بالإجابة للاستدعاء الاضطراري ، والاستعداد الحاصل به ، أي : بالاضطرار ] .

أي : ومتى أجيب في عين ما سأل من غير تأخير ، مثل هذا المتوجه في دعائه إلى الصورة المشخصة في ذهنه ، فإنما سبب تلك الإجابة في حقه أحد الأمرين : أمر سراية المعية الإلهية ، أي تعلق الصفات الإلهية وظهوراته بجميع الحقائق ، والصور الكونية على ما أشار إليه بقوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : 4 ] .

وإنما قال : سراية المعية الإلهية ؛ لأن الذات من حيث هي غنية عن العالمين لا تعلق لها بالأشياء من حيث هي ، وأشار بالإلهية إلى أن تعلقها باعتبار الصفات ، وإن أوهم قوله تعالى : وَهُوَ مَعَكُمْ [ الحديد : 4 ] ،

معية هوية بالذات إلا أن ذلك الوهم مرفوع بقوله :وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ الممتحنة : 3 ] ،

وإنما كانت هذه السراية سبب الإجابة ؛ لأنها مقتضية عدم خلق شيء عن الخلق ، إلا أنها ليست من الأسباب الموجبة للإجابة ؛ لأن الداعي لا يلتفت إليها من حيث أنها مظهر ، بل من حيث أنها عين الحق .

فالصورة ذات وجهين : أحدهما يوجب الإجابة ، والآخر يمنعها ، فإذا تأكد أحدهما بأمر خفي أجيب ، وإلا فلا .

أما جمعية الهمة جمعية تامة حاصلة للمضطرين من المحجوبين الموعود لهم بالإجابة في قوله تعالى : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [ النمل : 62 ] ،

وهو وإن توجه إلى الشخص المتخيل في ذهنه ، لكنه بمنزلة الداعي للحق باعتبار معيته لذلك الشخص الذي في ذهنه مع ترجحه بالاستدعاء الاضطراري لا محل الرحمة بالاستعداد الحاصل له بالاضطرار .

وإنما فسر الضمير في به بالاضطرار ؛ لئلا يتوهم عوده إلى استدعاء ، وهذا السبب موجب للإجابة ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ وحال من هذا وصفه مخالف لحال ذي التصور الصحيح والمعرفة المحققة ، فإنه مستحضر الحق ، ومتوجه إليه استحضارا وتوجها محققا ، وإن لم يكن ذلك من جميع الوجوه ، لكن يكفيه كونه متصورا ومستحضرا للحق في توجهه ، ولو في بعض المراتب ، ومن حيثية بعض الأسماء والصفات . وهذا حال المتوسطين من أهل اللّه والحال

المقدم ذكره حال المحجوبين ] .

أي : وحال من هذا أي التوجه إلى الشخص المتخيل في الذهن وصفه ، وإن أجيب في عين ما سأل من غير تأخير مخالف لحال ذي التصور الصحيح والمعرفة المحققة ، فسر التصور الصحيح بالمعرفة أي المطابقة للواقع ؛ ليعلم أنه لا يتم بالتقييد ، بل لا بدّ معه من الدليل القطعي : فكريّا أو ذوقيّا ، وإنما خالف حاله لحال ذي التصور الصحيح ؛ لأن ذا التصور الصحيح يستحضر الحق قبل الدعاء ، ثم يتوجه إليه استحضارا محققا وتوجها محققا ، فهو مشاهد للحق متوجه إليه بحسب إجابته بمقتضى الوعد في قوله : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ،

بخلاف المستحضر صورة متخيلة في ذهنه والمتوجه إليها ، فإنه لا يجب إجابته أصلا ؛ وإنما يجب إجابة ذي التصور الصحيح ، وإن لم يكن ذلك من جميع الوجوه من الذات والأسماء والصفات وسائر المراتب والاعتبارات ، لكن يكفيه في وجوب الإجابة كونه متصورا للحق تصورا مطابقا في بعض المراتب مستحضرا للحق في توجهه إليه في بعض المراتب .

ولما أوهم هذا إن بعض المحجوبين أيضا متوجه إلى الحق في بعض المراتب ، فسرها بكونها من المراتب العالية الحاصلة من حيثيات بعض الأسماء والصفات ، لا من حيثية الصورة المستجلية فإنها مخلة بالمعرفة ، واستحضار بعض المراتب الإلهية لا تخل بها ، وهذا التصور في بعض المراتب الأسمائية والصفاتية حال المتوسطين من أهل اللّه ، فلهذا كثيرا ما يجابون في عين ما سألوا من غير تأخير ، وإن أخرت أو بدلت ، باعتبار ولاية ذلك الاسم وتقيده والحال المقدم ذكره ، وهو استحضار الصورة المتخيلة في الذهن حال المحجوبين ، فلا يجب لهم الإجابة أصلا ، وهو لا يعلم أن تلك الصورة من مظاهر الحق بل يتوهم غيبتها ، فيبعد عن الحق والمتوسط يعلم أنه من أسمائه فيقرب من الحق ، فيجب إجابته ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ وأما الكمّل والأفراد ، فإن توجههم إلى الحق ، تابع للتجلي الذاتي المشار إليه الحاصل لهم والوقوف تحققهم بمقال الكمال على الفوز به ، فإنه مثمر لهم معرفة تامة جامعة لحيثيات جميع الأسماء والصفات والمراتب والاعتبارات مع صحة تصور الحق من حيث تجليه الذاتي المشار إليه الحاصل لهم بالشهود الأتم ، فلهذا لا تتأخر عنهم الإجابة ] .

لما فرغ عن بيان حال المحجوب ، وأنه لا يجب إجابته إلا أنه قد يجاب لأمر عارض ، وعن بيان حال المتوسطين ، فإنهم يجابون غالبا فيما سألوا من غير تأخير ؛ لكونهم أصح تصورا أو أتم مطاوعة ، فأشار هنا إلى بيان أن تصورهم هو أصح ما يتصور به الحق ، وإنما أخره إلى هنا لتوقفه على تحصيل مقام التوسط ،

فقال : فإن توجههم ، أي في أدعيتهم إلى الحق تابع للتجلي الذاتي المشار إليه أنه التجلي الاختصاصي المسمى البرقي ، ولما توقفت تبعية توجههم لهذا التجلي على حصوله لهم ، أشار إليه بقوله : الحاصل ،

ثم استدل عليه بقوله : والموقوف تحققه بمقام الكمال على الفوز به ، ثم بين تبعية توجههم لذلك التجلي مع عدم بقائه نفسين بأنه مثمر لهم معرفة تامة جامعة لحيثيات جميع الأسماء والصفات وسائر المراتب الإلهية والكونية وجميع الاعتبارات ؛ لأن النزول على التجلي الذاتي المشار إليه ، يكون إلى حضرة الأسماء والصفات وسائر المراتب والاعتبارات جميعا ،

ولا يقتصر على ذلك بل يكون مع صحة تصور الحق الذي حصل لهم من حيث تجليه الذاتي من غير المظاهر على ما أشير إليه ؛ لأنه قد حصل لهم بالشهود الأتم فيبقى ذلك التصور في أرواحهم وإن زال التجلي ،

فتكون معرفتهم وتصورهم للحق أتم وتوجههم بحسب استحضارهم للحق بذلك المتصور الذي لا يحجبهم فيه الصفات عن الذات ولا الذات عن الصفات ولا سائر الأمور عنها : فلهذا لا تتأخر عنهم الإجابة في عين ما سألوا وإنما لم يعده ؛ لأنه مفهوم مما سبق إن عدم التأخير يدل عليه ؛ لأن تغيير المسؤول أشد من تأخيره في عدم القبول ،

وقد أشار بقوله : بالشهود الأتم أي : إن التصور إنما يزول إذا لم يكن الشهود كاملا ، وأما مع كماله فلا ، وقد أشار بقوله : فلهذا لا يتأخر عنهم الإجابة ؛ لأنهم سائلون بجميع الألسنة ، والتأخر نوع إباء ، ولا إباء مع السؤال بلسان الذات والأسماء ، فكيف بألسنة الجميع .

قال رضي اللّه عنه : [ وأيضا فإنهم ، أعنى الكمّل ، ومن شاء اللّه من الأفراد أهل الاطلاع على اللوح المحفوظ بل وعلى المقام القلمي بل وعلى حضرة العلم الإلهي ، فيشعرون بالمقدر كونه لسبق العلم بوقوعه ، ولا بدّ فيسألون لا في مستحيل غير مقدر الوجود ، ولا تنبعث هممهم إلى طلب ذلك والإرادة له ، وإنما قلت والإرادة له من أجل أن ثمة من يتوقف وقوع الأشياء على إرادته ، وإن لم يدع ولم يسأل الحق في حصوله ] .

وقد عاينت ذلك من شيخنا - قدس اللّه روحه - سنين كثيرة في أمور لا أحصيها ، وأخبرني رضي اللّه عنه أنه رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم في بعض وقائعه وأنه بشره ، وقال له : اللّه أسرع إليك بالإجابة منك إليه بالدعاء .

دليل آخر على وجوب إجابتهم في عين ما سألوا من غير تأخير ، وهو إن الكمل من الأقطاب أهل الاطلاع على إرادة اللّه تعالى ، ومن شاء اللّه من الأفراد بالمشيئة السابقة على الإرادة ، ولذلك بين الضمير إذ لا يدخلون تحت الإرادة المخصصة التي للأقطاب لها لا يخصصون كل شيء بما يليق به أهل الاطلاع على اللوح المحفوظ الذي هو النفس الكلية محل تفصيل رقوم الأكوان ،

بل المقام القلمي الذي هو العقل الأول محل رقومها إجمالا ، بل وعلى العلم الإلهي الذي هو ممدها ؛ وذلك لأنهم أهل التجلي الذاتي ، فلا بدّ لهم من النزول إلى هذه المراتب والمرور بها ، فيعرفون ما فيها ويطلعون عليها ، فيشعرون بالمقدر كونه ، وما لم يقدر اكتفى بأحدهما عن الآخر ، كمال قوله تعالى :سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ[ النحل : 81 ] ،

وإنما يشعرون بذلك ؛ لسبق العلم الإلهي بوقوع كلما قدر كونه وما لم يقدر ، وقد اطلعوا على ذلك العلم ، فيسألون فيما يمكن وجوده مما سبق العلم به لا في مستحيل غير مقدر الوجود ، وإن كانت استحالته لا بالذات بل بالعلم ، لاستلزام وقوع ما سبق العلم ، بخلاف انقلاب علمه تعالى جهلا ،

تعالى اللّه عن ذلك العلم القديم ، فإذا كان مستحيلا لا يدعون فيه ، بل ولا تنبعث هممهم إلى طلب ، ولا تتوجه إرادتهم فضلا عن الدعاء حتى يقع الإباء بالنسبة إليهم في ذلك المستحيل باعتبار انبعاث همهم وإراداتهم .

وإنما قال : [ ولا تنبعث هممهم وإيراداتهم من أجل أن في الكمل من يتوقف وقوف الأشياء على همته وإيرادته ، كما يتوقف وقوع الأشياء في التقدير الإلهي على الدعاء هذا بالنسبة إلى بعض الأشياء ، فإن المقدرات على نوعين جازمة ومعلقة ، فالمعلقة يتوقف على الدعاء ، أو غيره من الأسباب والجازمة ما لا يتوقف على شيء ، فمن توقف وقوع الأشياء على إرادته فقط ، حصلت بمجرد الإرادة ، وإن لم يدع ولم يسأل الحق في الحصول بلسان الظاهر ] .

...................................................

( 1 ) يعني الشيخ الأكبر ختم الولاية المحمدية ، سيدي محيي الدين بن عربي .

( وقد عاينت ) أي : علمت علما يشبه العيان من الشيخ الكامل المكمل محيي الدين بن عربي قدس اللّه روحه ، أنه رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم في بعض وقائعه ، أي كشوفه أو مناجاته ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم بشره بقوله : “ اللّه أسرع إليك بالإجابة منك “ أي : من سرعتك إليه بالدعاء إذ يجيبك بمجرد الإرادة قبل الدعاء ، أورد هذه العبارة الطويلة ، ولما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم يبشره بأن اللّه أسرع إليك . . . إلى آخره ؛ ليشعر أولا أنه رأى من تكون رؤيته رؤية الحق ، ثم ليمدح رؤياه بأنه بشرى من النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بيّن ما أجمله مع رعاية عبارة النبي صلى اللّه عليه وسلم .

قال رضي اللّه عنه : [ وهذا المقام فوق مقام إجابة الأدعية ، وإنه من خصائص كمال المطاوعة ، ومقامه فوق مقام المطاوعة ، فإن مقام المطاوعة يختص بما سبقت الإشارة إليه من المبادرة إلى امتثال الأوامر ، وتتبع مراضي الحق ، والقيام بحقوقه بقدر الاستطاعة .

كما أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم في جواب عمه أبي طالب حين قال له : “ ما أسرع ربك إلى هواك يا محمد “ ، لما رأى من سرعة إجابة الحق له فيما يدعوه فيه .

وجاء في رواية أخرى أنه قال له : “ ما أطوع ربك لك “ ، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ وأنت يا عم إن أطعته أطاعك “ " 2 " .

وهذا المقام الذي قلت إنه فوق هذا ، راجع إلى كمال موافاة العبد من حيث حقيقته لما يريده الحق منه بالإرادة الأولى الكلية المتعلقة بحصول كمال الجلاء والاستجلاء ، فإنه الموجب لإيجاد العالم ، والإنسان الكامل الذي هو العين المقصودة للّه على التعيين ، وكل ما سواه فمقصود بطريق التبعية له وبسببه من جهة أن ما لا يوصل إلى المطلوب إلا به ، فهو مطلوب ، فهذا هو المراد من قولي “ فمقصود بطريق التبعية ] .

أي : ومقام إجابة الإرادة فوق مقام إجابة الأدعية باللسان لما أنه يحتاج زيادة الإخراج إلى اللسان لما يتأخر إجابته إلى ذلك الإخراج ، وأن مقام إجابة الإرادة من خصائص كمال المطاوعة من العبد الموجبة للمطاوعة الإرادة الإلهية ؛ لإرادته قبل التلفظ .

ومقام كمال المطاوعة فوق مقام مطلق المطاوعة الموجبة للمطاوعة الإلهية بعد السؤال باللسان ؛ لأن مقام مطلق المطاوعة يختص بما سبقت الإشارة إليه من المبادرة إلى

..........................................................

( 1 ) لم أقف عليه .

( 2 ) لم أقف عليه .

امتثال أوامر الحق من الواجبات ، وتتبع مراضي الحق من المندوبات ، والقيام بحقوق الحق من واجب الاعتقاد الصحيح فيه ، ومن الإخلاص في العمل بترك طلب العوض والغرض ، فهو بقدر الاستطاعة قيد به ؛ لأن الإتيان بذلك على وجه الكمال إنما هو مقام كمال المطاوعة .

وإنما أعاد هذا مع أنه سبقت الإشارة إليه ؛ لأن السابق يوهم أنه هو كمال المطاوعة ، وليس كذلك ، بل هو مطلق المطاوعة ، ثم استدل على استلزام مطلق المطاوعة للمطاوعة الإلهية في إجابة سؤاله صلى اللّه عليه وسلم : “ وأنت يا عمّ إن أطعته “ ، أي إنما سارع ربي إلى هواي وأطاعني ، لمطاوعتي إياه جزاء عليه ، وليس يختص بي بل هو عام لكل مطيع له ، فدل على أن مطلق الإطاعة من العبد يستوجب إجابة الحق سؤاله ، وقول أبي طالب : “ ما أسرع ربك إلى هواك “ ، أي إلى ما تحبه فتسأله فيجيبك أسرع من إجابته غيرك .

ومعنى ما في الرواية الأخرى : “ ما أطوع ربك إليك “ أي : أسرع إجابة إلى دعائك ؛ فعلى الرواية الأولى يكون عليه كلامه عليه من قبيل المشاكلة باعتبار أول كلامه عليه السلام السلام فقط ، وعلى الرواية الثانية من قبيل المشاكلة باعتبار قول أبي طالب أيضا ، وإنما أورد الروايتين ؛ لأن الأولى تدل على سرعة الإجابة دون الثانية ؛ لأنها تدل على مطلق الإجابة ، إذ هي المرادة من الإطاعة الإلهية ، والثانية تدل على أن هذا الاطلاع شائع في الجاهلية والإسلام من غير منع

.

فهذا مقام مطلق المطاوعة ، وأما كمال المطاوعة ، فهو المشار إليه بقوله : وهذا المقام الذي أنه فوق هذا أي : فوق قوته مطلق الكمال راجع إلى كمال مواطآت العبد ، لا من حيث حقيقته الذي هو الوجود المطلق لكن باعتبار تعينه به ، ولهذا لو ورد لفظ المواتاة لما يريده الحق فيه بالإرادة الأولى ،

أي : المتعلقة بما هو مراد بالذات ، لكونه أكمل البريات ، وهي الإرادة الكلية التي أريد بها ظهور كمال يمكن ظهوره ، وهي المتعلقة بحصول كمال الجلاء والاستجلاء . فالجلاء ظهور الذات المقدسة لذاته في ذاته ،

.....................................

والاستجلاء ظهور

( 1 ) لم أقف عليه .

( 2 ) لم أقف عليه .

( 3 ) لم أقف عليه .

الذات للذات في التعينات ، وكمال الأولى أن يظهر أيضا في مراتب الأسماء والصفات ، وكمال الثانية أن يجتمع بتلك التعينات إجمالا وتفصيلا في التعين الجامع للتعينات في المرتبة الجامعية الإنسانية ، فإنه أي طلب كمال الجلاء والاستجلاء ، هو الموجب لإيجاد العالم الذي به تتفصل الكمالات المجملة في الذات ، والإنسان الكامل الذي تصير به الكمالات مجملة بعد التفصيل ، فهو الجامع للكمالات الإجمالية والتفصيلية جميعا ؛ فلهذا كان الإنسان الكامل عينا مقصودة للّه تعالى على التعين ، أي من حيث تلك الإرادة ، وإلا فهو سبحانه وتعالى غني عن العالمين ، وكل ما سواه كان إنسانا غير كامل أو غير إنسان ، فمقصود بطريق للإنسان الكامل ، لكونه كالمقدمات والمتممات له .

ولهذا قال رضي اللّه عنه : ( وبسببه ) أي : بسبب الإنسان انتسب إلى إرادة الحق ظهوره على الكمال ، وليس المظهر كامل من حيث أن ما لا يوصل إلى المطلوب إلا به ، فهو مطلوب ؛ فالمطلوب الأول مراد بالذات ، والثاني مطلوب بتبعية طلب الأول ؛ ولذا قال : فهذا هو المراد من قولي بطريق التبعية .

والحاصل عن هذا الكامل لما كان مرادا بالذات ؛ لكونه مظهرا كاملا له مراتب ، يشكل ما يريده بالإرادة الأولى الكلية ، كان مجيبا لإرادته من غير توقف على السؤال باللسان ، بخلاف المطيع الأول ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ وإنما كان الإنسان الكامل هو المراد بعينه دون غيره من أجل أنه مجلى تام للحق يظهر الحق به من حيث ذاته وجميع أسمائه وصفاته وأحكامه واعتباراته على نحو ما يعلم نفسه بنفسه في نفسه ، وما ينطوي عليه من أسمائه وصفاته وسائر ما أشرت إليه من الأحكام والاعتبارات وحقائق معلوماته التي في أعيان مكوناته دون تغيير يوجبه نقص القبول وخلل في مرآتيته يفضي بعدم ظهور ما ينطبع فيه على خلاف ما هو عليه في نفسه ] .

إشارة إلى سبب كون الإنسان الكامل من الأقطاب والأفراد مرادا للحق دون غيره ، كالعقول والنفوس والأجسام وغيرها ، وهو أن الإنسان الكامل إنما كان مرادا للحق من أجل مجلى تام للحق ، إجمالا وتفصيلا من غير نقص وخلل في مظهريته ؛ وذلك أنه يظهر به الحق من حيث ذاته ، لكنه متصف بالوجود ، وجميع أسمائه وصفاته ؛ لأنه حيّ ، عالم ، قادر ، مريد ، سميع ، بصير ، متكلم ، وفيه الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع

والبصر والكلام وأحكامه المتعلقة بذاته وصفاته ؛ لكونه واجبا به ، ممكنا بنفسه واعتباراته من حيث الإطلاق والتقييد وسائر النسب ، مع ظهور كل منها فيه على الكمال ، فإنه يظهر فيه الذات على نحو ما يعلم نفسه بنفسه لا بعلم زائد ، ولا باعتبار ما يعلم نفسه في المظاهر التي سواه ؛ وذلك عن كونه فانيا فيه ، ويظهر أسماءه وصفاته على نحو علمه بما ينطوي عليه ذاته من أسمائه وصفاته وسائر ما أشرت إليه من الأحكام والاعتبارات ، وذلك عند كونه باقيا به ، ويظهر فيه أيضا حقائق معلوماته التي هي الأعيان الثابتة لمكوناته ، لكونه مختصرا من العالم الكبير ، فهو جامع لنسختي الحق والخلق على ظهور كل منها فيه على الكمال دون تغيير من الظهورين ، سببه نقص قبول المظهر وذلك النقص بخلل في مرآتية المظهر يقتضي ذلك الخلل ظهور ما ينطبع فيه على خلاف ما هو عليه في نفسه ، كما هو شأن المرايا المحسوسة إذا كانت معوجة أو مستطيلة يظهر ذلك الاعوجاج والاستطالة فيما انطبع فيها من الصور . وإنما كان قبول الإنسان كاملا غير مختل بحسب المرآتية ؛ لأنه مظهر كامل لذاته وأسمائه وصفاته وسائر اعتباراته ، بخلاف سائر العوام ، فافهم .

قال رضي اللّه عنه : [ فإنّ من كان هذا شأنه ، لا يكون له إرادة ممتازة عن إرادة الحق ، بل هو مرآة إرادة ربه وغيرها من الصفات ؛ وحينئذ يستهلك دعاءه في إرادته التي لا تغاير إرادة ربه ، فيقع ما يريده كما قال اللّه تعالى : فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [ هود : 107 ] .

ومن تحقق بما ذكرنا ، فإنه إن دعا ، إنما يدعو بألسنة العالمين ومراتبهم من كونه مرآة لجميعهم ؛ كما أنه متى ترك الدعاء ، إنما يتركه من حيث كونه مجلى للحق باعتبار أحد وجهيه الذي يلي الجناب الإلهي ، ولا يغايره من كونه : فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [ هود : 107 ] .

تعليل لقوله : وإنه من خصائص كمال المطاوعة ، أورد بعد بيان معناه ، والفرق بينه

..................................................................

( 1 ) قال الشيخ الأكبر في الجواب الثامن ومائة : اعلم أنه ليس في الوجود أكمل من الإنسان ؛ لأنه على الأخلاق الإلهية ، فالإنسان الكامل هو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن الأول بالقصد ، والآخر بالفعل ، والظاهر بالحرف ، والباطن بالمعنى ، وهو الجامع بين العقل ، والطبع ، ففيه أكثف تركيب ، وألطف تركيب ، من حيث طبعه ، وفيه التجرد عن المواد ، والقوى الحاكمة على الأجساد ، وليس ذلك لغيره من المخلوقات ؛ ولهذا خص بعلم الأسماء كلها ، وبجوامع الكلم ، ولم يعلمنا اللّه أن أحدا سواه أعطاه غير هذا الإنسان الكامل ، وليس فوق الإنسان مرتبة .

وبين مطلق المطاوعة ، أي إنما إجابة مجرد الإرادة من خصائص كمال المطاوعة ؛ لأن العبد المتصف بها لما كان مرآة من حيث حقيقته لما يريده الحق منه بالإرادة الأولى الكلية المتعلقة بحصول كمال الجلاء والاستجلاء ، لا يكون له إرادة ممتازة عن إرادة الحق ، بل هذا العبد مرآة إرادة ربه ، ومرآة غيرها من الصفات ، وإرادته ظل إرادته عزّ وجل ، بل عينها بحسب الحقيقة ، فلا يحتاج إلى الدعاء ؛ لأنه حينئذ يستهلك دعاءه في إرادته ، وإرادته لا تغاير إرادة ربه ، فيقع ما يريد الرب الذي هو فعال لما يريد ، لا يختلف عن إرادته مراد ما بوجه من الوجوه ، إذ الوجود العام مطيع له بالطبع ، إطاعة أعضاء الإنسان له عند صحته وكمال قواه ، فهكذا ما هو مرآته لتنورها بنوره ، فيؤثر فيما يقابله تنوير الماء المتنور بالشمس ما يقابله من الحائط ، فيكون فعال لما يريد بربه لا بنفسه ، ثم ذكر ما هو أعلى منه ، وهو من تحقق بما ذكرناه من كمال الجلاء والاستجلاء ،

وكان في مقام البقاء ، فلا يستهلك دعاءه ، فإنه يستجاب دعاؤه وإرادته جميعا ؛ لأنه إنما يدعو بألسنة العالمين الظاهرة وبمراتبهم التي هي أسئلة معنوية من سؤال الحال والاستعداد وغيرها ، وكل هذا ناشئ من كونه مرآة لجميعهم ، ودعاء الكل مقبول لا محالة ، وإن ترك الدعاء تجاب إرادته ؛ لأنه إنما يتركه من حيث كونه مجلى للحق ، والحق لا يكون داعيا ، فإنه من شأن العبد ،

وهو تعالى أعلى من أن يصير عبدا ، كما أن العبد أخس من أن يصير ربّا ، وكونه مجلى للحق باعتبار أحد وجهيه ، وهو أن كل مقيد له وجه إلى وجه الإطلاق ، وقد كمل هذا الوجه في حق هذا العبد إذ كان مظهرا كاملا ، فلا يغايره من جهة كونه فعالا لما يريد ؛ لأن إرادته مرآة إرادة الحق ، فيكون مجاب الإرادة لا محالة . فافهم .

قال : [ وليس وراء هذا المقام مرمى لرام ، ولا مرقى إلى مرتبة ولا مقام ، ودونه المتوجه إلى الحق بمعرفة تامة وتصور صحيح المقصود بخطاب :ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وخبر الحق صدق ، وقد تيسر ذلك لهذا العبد المشار إليه ، فلزمت النتيجة التي هي الإجابة ، ولا بدّ بخلاف غيره من المتوجهين المذكور شأنهم .

فاعلم ذلك تفز بأسرار عزيزة وعلوم غريبة لم تنساق إليها الأفكار والأفهام ولا رقمتها الأنامل بالأقلام واللّه المرشد ] .

أي : وليس وراء مقام التحقيق بما ذكرنا من كمال المطاوعة التي هي مرآة للعبد من

حيث حقيقته لما يريده الحق منه بالإرادة الأولى الكلية المتعلقة بكمال الجلاء والاستجلاء والتحقيق به في مقام البقاء مرمى لرام ترقى إليه همته فيقصده ، ولا مرقى إلى المرتبة ؛ لأنها أجمع للمراتب ولا مقام ، لأنه فوق المقامات كلها ، فيكون مستجاب الدعوة والإرادة جميعا ، ودون هذا الكامل المتوجه إلى الحق بمعرفة تامة وتصور صحيح ، وهو الذي لا يناقض الحق بوجه من الوجوه بلوغه غاية ما يمكن الوصول إليه إلا ما يحيط بكنه حقيقته ، إذ هو محال ، وهذا هو الذي يجيب إجابته بمقتضى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ،

لا إرادته ، وهو المقصود بخطاب ادعوني إذ من يجاب إرادته لا يحتاج إلى الدعاء إلا لتحقيق مقام العبودية وكونه مرآة العالم . ثم ذكر أنه وإن كان دون الأول ، لا يجوز ترك إجابته ؛ لأن خبر الحق صدق ، وقد أخبر بالإجابة عند دعوته ، وقد تيسر ذلك الدعاء لهذا العبد بالمعرفة التامة والتصور الصحيح ، فلزمت نتيجة الوعد المذكور التي هي الإجابة .

شبهت نتيجة القياس في اللزوم ثم ألزم بقوله : “ ولا بدّ “ بخلاف غيره من المتوجهين المذكور شأنهم في التوسط أو الحجاب الذي يتوجه إلى صورة مختلفة ، فإن إجابتهم جائزة لا واجبة .

وإنما أوردهم إشعارا بأنه لو لم يجب إجابة العارف التام المعرفة ؛ لكان مثل هؤلاء في جواز ترك الإجابة ، لكن الحكمة الإلهية تأبى ذلك ، ولم يدخلوا في : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ؛ لأنهم لم يدعوه مستحضرين له بالتصور الصحيح .

فاعلم هذه القاعدة تفز بأسرار عزيزة من لزوم إجابة الدعوة أو الإرادة أو عدم لزوم أحدهما ، وعلم غريبه من معرفة الكامل ، وغير الكامل على وجه خاص كلي حاضر لم يتسابق إليها الأفكار ، التي لا تحيط بهذه الأمور الكشفية بل ، والأفهام الذوقية ولا رقمتها الأنامل بالأقلام ؛ إذ هي فرع الفكر والفهم ، وإنما أورده ؛ لأنه ما يتوهم “ يعلمون ما يسطرون “ ، واللّه المرشد إلى مثل هذه الأسرار والعلوم بتجلياته الذاتية لا غير ، فافهم .



 

 

البحث في نص الكتاب

كتب صدر الدين القونوي:

كتب صدر الدين القونوي:

كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن

مفتاح غيب الجمع ونفصيله

كتاب الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص

الأسماء الحسنى

رسالة النصوص

مشرع الخصوص إلى معاني النصوص للشيخ علاء الدين علي بن أحمد المهائمي

النفحات الإلهية

مرآة العارفين ومظهر الكاملين في ملتمس زين العابدين

المكتوبات

الوصية

إجازة الشيخ محي الدين له

التوجه الأتم إلى الحق تعالى

المراسلات بين صدرالدين القونوي وناصرالدين الطوسي

الرسالة المهدوية

الرسالة الهادية

الرسالة المفصحة

نفثة المصدور

رشح بال

الرسالة المرشدية

شرح الشجرة النعمانية {وهي تنسب خطأً إليه}



Please note that some contents are translated Semi-Automatically!