المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
النفحات الإلهية
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
نفحة ربانية في كشف سر محبة المحبوب المحب و سر محبة المحب المحبوب
اعلم ان المحبوب انما أحب المحب لكونه سببا لاستجلاء كماله فيه و محلا لنفوذ سلطنة جماله و بسط أحكامه، فالمحبوب مرآة المحب يستجلى فيها محاسن نفسه المستجنة في وحدته قبل تعين المجلى، لان القرب المفرط و التوحد كانا يحجبانه عن ذلك، فإذا استجلى نفسه في امر آخر بحصول ضرب من البعد و الامتياز قريب من الاعتدال و رأى محاسن نفسه في المجلى، أحبها حبا لا يتأتى له ذلك بدون المجلى ، و الامتياز المشار إليهما لما ذكرنا من حجابية القرب و الوحدة .
و ايضا فنسخة الحقيقة الانسانية تشتمل على ما تستحق ان يحب كل الحب، و على ما ليس كذلك بل يقتضي النفرة بالنسبة لما يضاده من الحقائق و يقابله، فإذا تعين مجلى يتميز به و فيه من الإنسان ما يستوجب المحبة صفة كان او فعلا او حالا او امرا مشتملا على جميع ما ذكرت او بعضه، و ارتفع حجاب القرب المفرط و غيره من البين، ظهر سلطان الحب طالبا رفع احكام الكثرة و المغايرة بتغليب حكم ما به الاتحاد على حكم ما به الامتياز، فأحب نفسه فيما يغايره من وجه و باعتبار مقتض للتمييز المذكور بالصفة الذاتية التي فيه الطالبة كمال الجلاء و الاستجلاء، فان هذه الصفة هي المستدعية ايجاد العالم، و المقصود من الإيجاد ليس غير ما ذكرنا، و كل ما ذكرنا في ذلك من موجبات الإيجاد فرع و تبع لكمال الجلاء و الاستجلاء، فافهم .
فحكم هذه الصفة اعنى كمال الجلاء و الاستجلاء مشترك و سار في كل محب، فيوجب له ان يحب ما ذكرنا و ان اختلفت الوجوه و الاعتبارات و كذلك حكم حجابية القرب المفرط و الادماج الذي يتضمنه هو امر مشترك بين المحب و المحبوب من كون كل واحد منهما من وجه محبا، و محبوبا من آخر كما ذكرنا غير ان بينهما فيما ذكرنا فروقا متعددة منها: ان المحبوب مرآة ذات المحب من حيث ما يقتضي ان يحب، فهو يستجلى فيها نفسه و يستجلى ايضا بعض محاسنها بالتبعية، و المحب مرآة كمال جمال المحبوب و محل نفوذ احكام سلطنته كما مر، و بهذا الحكم سار في كل محب و محبوب دون استثناء، و ان شأن الحق سبحانه مع خلقه بهذه المثابة، فنحن من حيث حقائقنا التي هي عبارة عن صور معلوميتنا الثابتة في علم الحق ازلا، مراء لوجوده المطلق الذاتي، و حضرته مرآة لأحوالنا المتكثرة و تعدداتنا، فنحن لا ندرك الا بعضنا بعضا، لكن في الحق، فنحب منا به ما نستجليه فيه و ليس غير الصفات و الأحوال، و هو يحب فينا نفسه من حيث ان رؤيته لنفسه في مرآة مغايرة له من وجه مخالف لرؤيته نفسه في نفسه لنفسه، بل لا رؤية هناك و لا تعدد لان المرآة المغايرة من حيث انها محل التجلي المتقيد بها، تبدى فيما ينطبع فيها حكما لم يكن متعينا حال رؤية الشي ء نفسه في نفسه لنفسه .
و هذا سر من اطلع عليه عرف سر الذوات و الصفات و الأحوال و المرايا و المحال و ان العالم بحقائقه و صوره مرآة للحق من وجه، و الحق من وجه آخر مرآة للعالم، و قد نبهت على الوجهين فتذكر .
ثم اعلم ان اكثر الأولياء و كثيرا من الكمل أدركوا الوجه الواحد من الوجهين المذكورين و رأوه الغاية و وقفوا عنده و لم يتعدوه، و طائفة منهم وقفوا عند الوجه الاخر، و كلا الأمرين ابدى الحكم واقع في كل زمان دون توقيت و مناوبة .
و ذكر لي شيخنا و امامنا رضى اللّه عنه باخبار من الحق له و نص صريح انه لا اعلى من هذا الذوق و لا اكمل منه في نفس الامر، فمن منحه فقد أدرك من الحق ما لا يمكن ان يدرك و ينال احد أتم منه، فاعمل الهمة و ابذل المجهود. فعلى مثل ليلى يقتل المرء نفسه . و قد حصل لنا ذلك بحمد اللّه و منه عناية و موهبة، فاجتهد يا اخى في ان يحبك الحق لا غير، فإنه إذا أحب الحق شيئا ناله و اناله، و اما غيره فقد يحب و لا ينال، و ان نال امرا مما يحب فلا يقدر ان ينيل غيره ما لديه، لأنه قد لا ينقل و لا ينقال، بخلاف الحق سبحانه فإنه على كل شي ء قدير، فافهم، و اللّه اعلم .