المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
النفحات الإلهية
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
نفحة الهية كلية تتضمن بيان مبدأ سفر الحق و منازله و لوازمه و ما يتبع ذلك من امهات العلوم و الاسرار التي بين المبدأ و المنزل
اعلم ان الحق سبحانه لما أحب ظهوره بصورة كماله المستجن في غيب هويته المستوعب لأحكام سائر شئونه الذاتية و ظهر في كل شأن منها بحسبه، اى بحسب ذلك الشأن، لا ليظهر عين الشأن فقط و لا لان يظهر ذاته في ذلك الشأن و مثل، بل ليكتسب كل شأن منها حكم سائر شئونه، فيظهر كل فرد من افراد مجموع الامر كله بصورة الجميع و وصفه و حكمه، تعرّف الى تلك الشئون بما يقتضيه خصوصية كل شأن منها من مطلق ذاته من حيث جمعه لسائرها، فأشعرها بها و به من حيث هي و سمّى ظهوره المتعدد فيها بحسبها خلقا .
بحسب حيطة بعض الشئون بأحكام غيرها من أمثالها بالتقدم و التأخر و التبعية و المتبوعية و السعة و الضيق و الإطلاق و التقييد، و تصادمت احكام كثرتها بأحكام وحدة عيّنه المتعيّنة بالشئون و تمازجت، فحدث بينها امتزاجات على انحاء و كيفيات مختلفه استدعت بجملتها ظهورا آخر منه في كل مزجة من تلك المزجات الغيبيّة المعنوية، و تعيّنا ثانيا من مطلق غيب ذاته الغير المتعيّن اقتضته و استدعته تلك المزجات من حيث احدية جملتها .فثبت له الاسم الاخر بالحكم المتأخر الثاني المذكور، كما ثبت له الاسم الأول بسابق الظهور، و ظهر حكم الأزل و الأبد بالحكمين و تعيّن الوسط بين الطرفين، فتفاضل الخلق و انقتق الرتق و انقسم كل طرف الى اقسام، كما انقسم الوسط الى اقساط جامعة حكم الوراء و الامام، فسماوات علا و أراض سفلى و كواكب و أرواح و مولّدات من الأصول الوسطى من معدن و نبات و حيوانات ذوات ظلف و حافر و خفّ و جناح .
ثم انّ المخضة المفصلة انتهت الى زبدة من هذه الجملة متحصلة، فقامت بوصف الجميع و تحققت بالمقام الرفيع، آنست بكمال قابليّتها من ظهرت منه و نابت في كل امر يرومه عنه، فسمّاه إنسانا و خليفة و ظلا، و جعله لتنفيذ أوامره في جميع خليقته منزلا و محلّا .ثم تعرّف به الى الخلائق تعريفا آخر جامعا بين ما يقتضيه خصوصية كل شي ء منه كما نبهت عليه و بين ما يقتضيه احدية جمعه بالنسبة الى جميع الأشياء، فبعض غلب عليه احكام الآثار فعرّفه في زعمه من حيث الأثر و التأثر، و بعض عرّفه من حيث ما تعيّن فيه من أوصافه و شئونه على ما بينها من التفاوت عند اهل التقييد اضافة المستحسن منها الى الأصل و الغير المستحسن عنده الى الغير، و بعض تعرّف اليه بحكم علمه فيه و في أمثاله، و سمى ذلك الحكم خطابا و كلاما و تنزيلا و نورا و هدى و نحو ذلك، و ليس سوى صورة حكم علمه في المخاطب و ترحّمه لأحواله المستجنة في ذلك العلم واحدا كان المعلوم او اكثر من واحد . و هذا شأنه مع كل موجود اى لا يعود عليه و لا يرجع اليه حال تمام دورته الكلية الّا صورة حكم علم ربه به و بلوازمه و ما تحيط به دائرة حقيقته التي هي عبارة عن صورة علم ربه بنفسه من حيث شأنه الذي كان هذا الموجود صورته و مظهره، و هكذا الأصول لا يعود عليه مما أوجد و يوجد الّا صورة علمه بنفسه من حيث نفسه و من حيث شئونها المتعدد ظهوره فيها مع احدية عينه الاحدية التي هي منبع الوحدة و الكثرة المعلومتين للجمهور، لكن الامر بالنسبة الى الأكثرين ليس علما .
فلهذا لا يحكم بعود حكم علمهم عليهم، بل يقال يستجلون صور ظنونهم في اللّه و فيما يتعيّن لهم منه بحسب صورة علم ربهم بهم ازلا، فإنه يعلم و أكثرهم لا يعلمون، و بذلك ورد التعريف التام الرباني بقوله: انا عند ظن عبدى بى الحديث .
و القليل من خواص اهل اللّه يستجلون في الحق صورة علمه بنفسه و صورة علمه بنفسه من حيث شئونه و أحكامها التي سنتعيّن فيهم و بهم في مراتب ظهوره معه بهم و فيهم، و مراتب ظهوراتهم في جنابه من حيث هو مرآة لهم و لأحوالهم ، و يستجلون ايضا صورة علمه سبحانه بهم و بأحوالهم بعضهم مع بعض التي يتلبّسون بها على سبيل التعاقب شيئا بعد شي ء و حالا بعد حال، فأخذوا العلم بربهم و بحقائقهم و أحوالهم من حيث تعلق علم موجودهم به و بهم، فلذلك لم يغاير علمهم بهم و بربهم و بما علموه علم ربهم بذلك كله الّا من حيث القدم و الاحاطة و كمال الانبساط على المعلومات و دوامه و عدم الانفعال .
فعلمه سبحانه قديم محيط منبسط دائم فعلىّ كما مر، و الذي لهم من ذلك هو مقدار ما يستدعيه سعة دائرة مقامهم و ما حاذاهم المحاذاة المعنوية، و اليه الإشارة بقوله: وَ لََا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ ( 255البقرة) .
فان قيل بانّ علم كل احد مطابق لعلم الحق المحيط بكل معلوم .
فجوابه: انّ اعتبار علم الحق من حيث انه صفة له مغاير لتعلق علمه بعلم غيره باعتبار انه صفة للغير، فافهم هذا، فإنه اعلى ما يكشفه الإنسان المعتنى به و اشرف ما يمنحه من ربه .
و مداركه المتعلقة به و بما يسميه سواه، فهو مستقره و مقامه آخر امره في اىّ المنزلتين تعيّن و انحرف إليها، و المنزلتان هما المسمّاتان سعادة و شقاوة تعيّنيا ، بحكمىّ الغلبة و المغلوبية الواقعتين بين احكام ذات الحق و احكام شئونه، و علمه بها و ان كانت شئونه ايضا، من احكام ذاته الكامنة في وحدته، و لكن ثمة فارق يعرفه الكمّل و من شاء اللّه. و هنا بحار لا ساحل لها، و مهاو لا مخلص منها الّا لمن شاء اللّه .
و اول الغلبات المشار إليها غلبة الرحمة الغضب، و تلك الغلبة اقتضت ترجيح طرف وجود الأشياء المسماة ممكنات على طرف عدميّتها، و عدميّتها عبارة عن استهلاك تعدد الشئون المشار إليها في الوحدة الصرفة، و هذه حالة مغلوبية الشئون، و عكس ذلك ظهور الامر في كل شأن بحسبه لا بحسب الامر .
و هذه المجازاة العظمى و الغلبة الواقعة بين هاتين الحقيقتين المكنّى عنهما بالرحمة و الغضب اللذين هما سبب كل انحراف و اعتدال، متعلق في مرتبة المعاني و الاجتماعات الاسمائية لإبراز الأرواح، و في مراتب الأرواح لبروز احكام عالم امثال و ما فيها من الصور و المظاهر، ثم الاعتدال المتنزّل في الصور الطبيعية و الامتزاجات المحسوسة، و خاتمة الامر ظهور كل شأن بوصف الجميع و حكم الوحدة الذاتية و صورة إطلاقها عن الحصر في امر بعينه بعد التحقق بالكل فعلا و انفعالا، ظهورا و بطونا، نقصا و كمالا. فافهم و هيهات .
و من اتّحد علمه بنفسه و ما يتقلب فيه من الأحوال و ما ينتهى اليه من المراتب بعلم ربّه به، اى بنفس ذلك العبد صار حكمه فيما يتقلب فيه من الأحوال علما و حالا، حكم ربه فيما ينقلب فيه من شئونه الذاتية، و تنوعات ظهوره سبحانه بحسب كل شأن يظهر فيه و يختاره مجلى له، فافهم .