---

وإن قدرت على المواساة، فإياك من التقصير في ذلك كل ما قدرت خصوصًا المريدين، وليكن السخاء والإيثار سجيتك، وليكن الذل والمسكنة شيمتك أيه المريد دائمًا

وأنبهك على أمر ذقته وهو عزيز وجوده، وذلك إنك إذا صحبت أو أحببت شخصًا في الله، واتفق أنه بغضك ذلك الشخص، إما لشهوة نفسه، أو خاطر سوء قام له، فبغضك لنفسه، أو طرأ عليه شبهة فيك، وتنبه لبغضك في الله، بحسب ما أعطته لك الشبهة، فابق أنت على حبك فيه لله، وعامِله معاملة المتحابين في الله، ولا تنظر لما طرأ عليه في حقك، ولتكن أنت الرحيم به في ذلك، فإذا فعلت ذلك، فقد وفيت المقام حقه، فاحرص على مثل هذا، ولا يؤثر في حبك فيه بالله، بما وقع عنده من البغض فيك في الله على زعمه، فإنك ما رأيت منه ما يوجب بغضك فيه في الله، ولتتلطف في إصلاح قلبه عليك رحمة به من حيث لا يشعر.

 ثم قال هذا الشيخ: (وإن قدرت على المواساة، فإياك من التقصير في ذلك كل ما قدرت خصوصًا المريدين، وليكن السخاء والإيثار سجيتك، وليكن الذل والمسكنة شيمتك أيه المريد دائمًا) هذه وصية منه لإخوته من المريدين، ولغيرهم من المؤمنين أن يكونوا بهذه الصفة وهو قوله: «والمتباذلين فيّ» فاحذر من التقصير مع القدرة على ذلك، وليكن عطاؤك بقدر الحاجة، وذلك هو السخاء، وأما الإيثار فإعطاؤك ما تتوهم أنك محتاج إليه في المستقبل، وأنت مستغنٍ عنه في الحـال، ولــذلك قـال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾[الحشر: 9]، فهذا تقدير وقوع الخصاصة، فإذا كانت الخصاصة على التساوي، فحق نفسك عليك أوجب عند الله تعالى، وكذلك الأقرب فالأقرب حالاًكالزوجة، ونسب كالولد، ودارًا كالجار، ونسبة كالمملوك، هكذا تربية الحق تعالى في ذلك على لسان رسوله ﷺ في أداء الحقوق، وكل من خالف م عينه الحق في أداء الحقوق، فذلك مواساة شهوة وغرض، ما هي لله تعالى، فليتحفظ [بالمواساة] من هذه الأغلوطة، ولا يجنح فيه إلى تأويل، فإنه لابد أن يرى غب ما فعل، وهذا لا يمكن إلا لمن راقب الله في أحواله وتصرفاته.

ثم قوله: في الانكسار والذل والمسكنة، دلك على فوائد جمة، وذلك أن المعطي أبدً يجد في نفسه عزة على المعطي له، وهو أضر شيء يكون بالعبد، فيحتال في إيصاله ذلك للمعطي له، من غير علم منه أنه أعطاه هذا المعطي شيئًا، والحيل في ذلك كثيرة فيه، فعلناها كثيرًا، ثم الذي يرجع المعطي من العلم بالله في ذلك، أن يقول لنفسه: لو كان هذا الذي آثرت به، وأوسعت به غيرك رزقك المخصوص بك، ما قدرت على إخراجه ،ول إعطائه، وإذا لم يكن لك في تقدير الله، وقسمه الأشياء، وقد علمت أنه أمانة بيدك، وأنت مأمور بأداء الأمانة إلى أهلها، فما أعطيت ما هو لك، وإنما أعطيت ما أودعه الله عندك له، فإن كان لك أجر فما هو إلا أجر أداء الأمانة، فلا ترى مع هذا أن لك مزية، ولا تميز عليه بما أوصلت إليه، فإنك ما أوصلت إليه بالعلم الصحيح، إلا ما هو له لا لك، فهذ دواء نافع، إن استعملته لم تر لك فضلاً على أحد، وإن كان الأخذ منك بمنزلتك في هذ النظر، فلا تبالِ في إعطائك إياه ذلك سرًا وعلنًا، وإن لم يكن له هذا القدم،  فإنك تعلم قطعًا أن نفسه الأبية تنكسر عند الأخذ منك، ويرى لك فضلاً عليه، فاحتل في إيصال ذلك إليه من حيث لا يقوم به انكساره، ولا يجد ذلاً في ذلك، والوجوه كثيرة.