موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

ينسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

وهو على الأغلب من تأليف الشيخ محمد بن أبى العباس الشاذلى، الملقب بابن اللبان (المتوفى سنة 749 هجرية)

فصل الرؤية

 

 


ومنها صفة الرؤية ، وقد جاء في غير ما آية ، وفي أحاديث منها هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم : ( هل تضارون في رؤية القمر ) وفي رواية ( في رؤية الشمس ) . فإذا ثبت تجليه تعالى في صورة روح الشريعة ، لم يبق في رؤيته أشكال ، وإنما عبر بالقمر والشمس عن حقيقة الوجه ، وهو نور التوحيد . واختلاف الروايتين يجوز أن يكون تنبيها على اختلاف درجات الرائين في نعيم الرؤية ، والمقصود : ان آيات اللّه : تتضح لعباده ، فلا يكون بينهم وبينها حجب تمنعهم عن استكناه كنهها ، والوقوف على بدائعها ، ويجوز أن يكون باعتبار الرؤية في البرزخ في وجوده كالليل ، وآيته القمر ، والآخر كالنهار ، وآيته الشمس . قوله : “ ليس دونها سحاب “ فيه ترقية لأهل المراقبة ، وذلك لأن غالب أهل المراقبة لا يشهدون بقلوبهم عند العبادة والمراقبة إلّا ظلل آيات الشريعة ، ويحجبون بسحابها عن شهود وجه ربهم ، وهو نور توحيده ، فإذا كان يوم القيامة : كشف الغطاء واحتد البصر ، فيرون وجه ربهم كشمس ليس دونها سحاب الأعمال ، ولا ظلل غمام الشرائع ، بل هو أقرب إليهم من أعمالهموَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُالآية .

تنبيه : وقد أنكر القاضي أبو بكر بن العربي في “ الأحوذي “ ثبوت نعيم الرؤية في الموقف ، وقال : ان نعيم الرؤية لا تكون إلّا للمؤمنين في الجنة ، وان ما جاء من الرؤية في الموقف إنما هو على سبيل الامتحان والاختبار . والذي نعتقده : ثبوت الرؤية ونعيمها للمؤمنين في الموقف - على ما صح في الحديث - وذلك صريح في قوله تعالى :وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ” 2 “ . تنبيه : لوجه ربنا سبحانه وتعالى رداء ، وله حجب ، وله سبحات . فأما رداؤه فقد نبه عليه صلى الله عليه وسلم في حديث عبد اللّه بن قيس ، عن أبيه ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب : آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) فالرداء ههنا - واللّه أعلم - هو ما يحجب القلوب عن رؤية الرب ، وهو أن يكون في قلبك كبرياء لغيره ، فأهل الجنة ليس لهم مانع من نعيم الرؤية وشهود نور التوحيد ، إلّا رداء الكبرياء ، فمن كبر في قلبه غير اللّه ، من غرف أو تحف أو قصور ، أو حور أو مأكول أو مشروب ، أو شيء سواه حجب عن اللّه ، ومن عرف اللّه صغر عنده كل شيء ، فارتفع عن بصيرته رداء الكبرياء لكل شيء ، فشهد اللّه في كل شيء . وبهذا يظهر لك سر افتتاح الصلاة بالتكبير ، لأن الصلاة حضرة التجلي والمناجاة ، والمراقبة لأنوار سبحات وجهه سبحانه وتعالى . إثبات : صح في الحديث الصحيح أن غراس الجنة : سبحان اللّه ،

والحمد للّه . وفي الحديث ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قيل : وما رياض الجنة ؟ قال حلق الذكر ) . وفي ذلك إشارة إلى أن نعيم الرؤية يحصل لأرباب القلوب في رياض جنة الأذكار ، وعند المراقبة ، وارتفاع رداء الكبرياء عن وجه التوحيد . وأما حجبه : فقد ثبت في الصحيح ان “ حجابه النور “ وفي رواية “ حجابه النار “ وليس بين الروايتين تناف . ولك في تأويله سبيلان : أحدهما أن وجهه سبحانه هو الباقي ذو الجلال والإكرام ، فله تجلى بجلاله في حجاب النار ، كما تجلى لموسى ( عليه السلام ) حين آنس من جانب الطور نارا .

وله تجلى باركامه في حجاب النور ، كما تجلى لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، في قوله صلى الله عليه وسلم “ رأيت نورا “ . وهذان الحجابان لأرباب الخصوص . التأويل الثاني : وهو لأرباب العموم ، يؤخذ مما قررناه أنه لا فاعل في الكون غيره ، ولا هادي ولا مضل سواه ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء ،لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ” 4 “ فوجه توحيده ، هو الذي ينعم ويهدي بإقباله ، ويعذب ويضل باعراضه ، وله في هدايته واضلاله حجابان ، فحجابه في هدايته النور ، وهو آياته المتجلية للقلوب بواسطة شرائع رسله ، قال تعالى :قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وحجابه في اضلاله النار ، وهي اكتساب الحجب المغشية للقلوب ، الصادة عن سبل الهدى والرشاد من وساوس الشيطان المخلوق من النار : كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ “ * “ .

فقد تبيّن بذلك أن وجه توحيد ، هو الهادي باقباله في حجاب نور الاتباع للمرسل فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وانه هو المضل باعراضه في حجاب الاتباع لوساوس الشيطان ، وأنه لا تنافي بين قوله : “ حجاب النور “

وبين قوله : “ حجابه النار “ ، وبذلك يفهم سر قوله صلى الله عليه وسلم “ اللّهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، إلى قوله : واجعلني نورا “ أي اجعلني من جميع الوجوه نورا ، دالا عليك ، وحجابا يتنعم برؤيتي من أراد التنعم بحسن النظر إليك .

تنبيه : جاء في الصحيح : “ إن اللّه سبعين حجابا من نور “ .

وذلك لا تنافي بينه وبين قوله : “ حجابه النور “ لأنه جنس يصح لشمول الأفراد وإن تعددت .

والحق ان حجب أنواره لا حصر لها ، لأن ما من شيء إلّا وهو حجاب من حجب وجه ربنا ، وآية من آيات وحدانيته .

وفي كل شيء له آية * تدل على أنه الواحد

وبمثل ذلك يفهم قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ، وقوله : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ .

وبذلك تعلم أن ذكر عدد السبعين في حجبه ، ليس للحصر .

قال الأزهري وغيره من علماء اللغة : “ العرب تضع السبع موضع التضعيف ، وان جاوز السبع “ .

وأصله قوله تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ الآية .

وأصل اعتبار هذا العدد في تضعيف حجبه : ان للّه صفات ذاتية ، وهي :

العلم ، والحياة ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام . فهذه سبع صفات ذاتية يتجلى سبحانه في حجب أنوارها بوجه توحيده ، فكانت هي مبدأ التضعيف في حجب أنواره .

ثم لأعداد التضعيف ثلاث رتب : رتبة العشرة ، ورتبة المائة ، ورتبة الألف . وآيات صفاته في تجلياتها تتضاعف بكل رتبة في دائرة من دوائر ملكه ، فإن تضاعفت برتبة العشرة كانت سبعين ، وإن تضاعفت برتبة المائة كانت سبعمائة ، وإن تضاعفت برتبة الألف كانت نهاية الكثرة .

وقد نبه صلى الله عليه وسلم على الثلاثة بقوله : “ من هم بحسنة فعملها كتبها اللّه عنده

عشر حسنات ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة “ .

ووراء ذلك أسرار كثيرة : يمنحها اللّه لمن يشاء من عباده .

تبصرة : وأما سبحات وجهه سبحانه ، فقد ثبت في الصحيح : ( لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) .

وقد أولها العلماء بجلاله ، وهو تأويل صحيح ، لكن وجه ربنا ذو الجلال والإكرام ، فله بجلاله سبحات ، وله بإكرامه سبحات .

وإذا أردت أن تجري في التأويل على وفق الاستعمال اللغوي ، والقواعد التي مهدناها : فاعلم أن السبحات جمع سبحة ، والسبحة في اللغة ما يتطوع به من ذكر ، وصلاة وتسبيح ونحوها ، مما لا يحصى أفراده .

وقد ثبت ان أنوار الطاعات حجب وجهه سبحانه ، ونور الذكر شامل لجميعها ، ومهيمن على سائر سبحات الإكرام والجلال ، وقد قال تعالى :

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ .

فذكر اللّه لنفسه ولعبده : سبحة وجهه الشاملة لأنواع سبحاته ، وذكر العبد له : نور حجابه .

فما دام العبد يشهد ذكره لربه ، فوجه ربه متجل عليه في حجابه بسبحة ذكره ، كما ثبت في الصحيح : “ أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين

يذكرني “ .

ولا يزال العبد يذكر اللّه ، وذكره له يبعده من شهود نفسه ونسبتها ، ويقربه من شهود توحيد ربه ، حتى ينكشف حجاب ذكر اللّه له ، ويتجلى له سبحة ذكر اللّه له ، هنالك تحرق سبحته بسبب نسب الأفعال والأذكار للعبد ، وتظهر نسبتها للرب ، كما ثبتت في الصحيح : “ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها “ .

تنبيه : قوله : “ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “ اعلم أن بصره تعالى لا تتناهى مبصراته ، ولا يحجبه عن خلقه حجاب ، وإنما ينكشف لك معنى الحديث بمراجعة ما قررته لك ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : “ الاحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك “ فنبه - بالشرط - على أن العبد لا يشهد رؤية اللّه له حتى يغيب عن صفته ورؤيته ومراقبته لربه ، فكل عبادة تصحبها المراقبة ، فهي نور من حجب وجهه سبحانه ، ينظر العبد منه إلى ربه ، وينظر اللّه منه إلى عبده فإذا كشف للعبد فيها حجاب المراقبة : شهد رؤية اللّه سبحانه له ، فانتهاء بصره عبارة عن انتهائه بحسب كشف العبد . وشهوده ، لا بحسبه في نفسه ، فإنه لا انتهاء له ، وخلقه هو صفة العبد ، ورؤيته وإحراقه ، هو : محوه بثبوت صفة الرب ورؤيته للعبد ، وصفة الرب ورؤيته هي : سبحة كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ .

إشارة : أورد محمد بن علي الأصفهاني عن مجنون ليلى في محاومة هذا المعنى ، ببيتين :

رأى ليلى : فأعرض عن سواها * محب : لا يرى حسنا سواه لقد ظفرت يداه ، ونال ملكا * لئن كانت تراه كما يراها، فنبه على أن الملك والظفر ليسا في رؤيته هو لها ، وإنما هما في رؤيتها له .

وقوله : كما يراها ، فيه تنبيه على تجلي السبحة ، وذلك أنه رأى ليلى على وجه الإفراد ، فلم ير معها غيرها ، ولهذا قال : “ فأعرض عن سواها “ حتى عن نفسه ، ولهذا قال : “ أنا ليلى وليلى أنا “ فنبه على أن الملك هو أن تراه كذلك ، فلا يراه غيرها ، وهذا فيما نحن فيه لا يتم إلّا بتجلي السبحة المقدسة ، فإنها إذا تجلت أحرقت الحادث من صفة العبد ، وتبقى صفة الرب هي المرئية له ، كأنها هي المرئية لعبده ، فهنالك تظفر يداه وينال ملك التصريف ، بقوله :

“ كنت سمعه الذي يسمع به “ الحديث .

“ إشارة “ بهذا يفهم سر أمر اللّه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبي ( رضي اللّه عنه ) ، لم يكن مع قوله صلى الله عليه وسلم : “ أقرؤكم أبي “ مع العلم بأن أبيا لم يكن أحفظ الصحابة للقرآن ، ولا أفصحهم في القراءة ، ولا أفقههم في أحكامه ، ولكن لعله كان عند قراءة القرآن أصفاهم مراقبة لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الذي

يقرؤه ويغيب بذلك عن قراءة نفسه ، حتى كأنه يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، ومما يدل على ذلك ويوضحه لك ، أن السورة التي أمر بقراءتها هي :

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي مشتملة على قوله : حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فكان أبي إذا قرأها صغي بأذن قلبه إلى روح النبوة يتلوا عليه ذلك ، فأراد اللّه أن يحقق له في عالم الشهادة من تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يشهده في عالم الغيب .

( لطيفة ) : حكمة استعارة الإحراق لمحو صفات الخلق : التنبيه على أن حقيقة الخلق تراب ، وباقي صفات الخلق إنما هي أثر تجليات الحق بصفاته ، فلو ظهرت صفاته رجع الخلق إلى أصله ترابا ، كما أن النار أي شيء أحرقته جعلته رمادا ، وأزالت جميع صفاته .

“ تربية “ : قد قدّمنا ان قوله : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ينبه على أن لوجهه الكريم تجليين : تجل بجلاله في حجاب النار ، وتجل باكرامه في حجاب النور ، فيحتاج أهل المراقبة إلى معرفة قبلة هذا التجلي وميقاته ومشرقه .

فاعلم يا عبد اللّه أن قبلة هذا التجلي القلب ، وميقاته : الصلاة .

ومشرق الجلال : سبحان اللّه .

ومشرق الإكرام : الحمد للّه .

فمن أراد شهود وجه ربه الباقي ، فليجعل قبلته قلبه ، وميقاته صلاته ، ثم له حالان :

الحال الأول : أن يغلب على قلبه تنزيهه مما سوى اللّه ، فهذا مشرقه سبحان اللّه ، ووجه ربه يتجلى عليه بجلاله في حجاب النار ، كما تجلى لموسى ( عليه السلام ) ، ولهذا أمر اللّه أتباعه أن يقتدوا به في ذلك بقوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ “ * “ فهذه القبلة والميقات . ونبه على تجليه عليه في مشرق “ سبحان اللّه “ في حجاب النار ، بقوله : فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ “ * * “ .

والحال الثاني : أن يغلب على قلبه شهود النعم والفضل للّه ، بلا شريك ، فهذا مشرقه : الحمد للّه ، ووجه ربه يتجلى عليه بإكرامه في حجاب النور ، كما تجلى لسيدنا إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) ، فكانت قبلته قلبهإِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍوكان ميقاته صلاته ومشرقه : الحمد للّهإِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شاكِراً لِأَنْعُمِهِ” 1 “ ، وكان التجلي بالإكرام في حجاب النور ، وهي أنوار : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، فقال :هذا رَبِّي. إشارة : إذا أردت أن تعلم أن ربه تجلى له بالإكرام ، فتدبر قوله تعالى :هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ” 2 “ فإذا كان ضيفه بسببه مكرما ، فما ظنك به ، وإذا أردت أن تعلم أن نظره كان لنور ربه ، لا للنجوم والكواكب ، فتدبر قوله :فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ” 3 “ جعل النجوم ظرفا للمرئي ، لا نفس المرئي ، وكيف لا ، وقد رأى ملكوت السماوات والأرض واللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ” 4 “وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ” 5 “

ومن جمع بين مشرق : سبحان اللّه والحمد للّه ، تجلى له ربه بكماله الجامع بين التجليين ، وأراه آيته الكبرى ، كما تجلى لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، ونبه عليه قوله :سُبْحانَ الَّذِي أَسْرىإلى قوله :وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداًالآية ، ولما تحقق ب “ سبحان “ أولا ، وب “ الحمد للّه “ آخرا تجلى له وجه ربه بكماله الجامع للجلال والإكرام في مشرق “ لا إله إلّا اللّه “ الجامع لسبحان اللّه والحمد للّه ، وهي آية ربه الكبرى ، ولهذا قال آخر السورةوَكَبِّرْهُ تَكْبِيراًوسيأتي لذلك مزيد بيان في مسألة الإسراء إن شاء تعالى .

فصل السمع ، والبصر ، والعين ، والأعين من الآيات المتشابهة آيات السمع والبصر والعين والأعين ، وقد دل الكتاب والسنة على أنهما قسمان : عادي وحقيقي ، فالعادي : سمع القلب بالأذن وإبصاره بالعين ، وهو عام في المؤمن والكافر ، والحقيقي : بصر العين بالقلب ، وسمع الأذن به ، وقد نفاه اللّه عن الكافر في غير ما آية ، منها قوله تعالى :وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ” 2 “ وفي قوله :وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ” 3 “ فأثبت لهم السمع والبصر العاديين ونفى عنهم الحقيقي ، وبهذا يفهم قوله تعالى :وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً” 4 “ مع العلم بأن اللّه يعيدهم بأبصارهم العادية ،

كحالهم في الدنيا تحقيقا : لقوله تعالى : كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ .

ولكن الحكم في تلك الدار للأبصار الحقيقة ، المستفادة من نور صفاته بواسطة استجابة القلب لآياته ، وتوجهها بنورها إلى عالم الغيب ، وقلب الكافر في الدنيا كان خاليا من نور التوحيد ، فكان بصره لا يرجع إلى قلبه ، لأنه لا مدد له إلّا من نور حسه ، وهو أعمى عن نور آيات التوحيد ، لا جرم انه يحشر يوم القيامة أعمى كما كان في الدنيا لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ فلذلك إذا قال : لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أي لا بصر في هذه الدار إلّا من نور صفاتي المستفاد من الاستجابة لآياتي وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فإذا صح لك أن السمع الحقيقي ، والبصر الحقيقي : عبارة عن سمع القلب وبصره ، وأن الجوارح ، وهي : العين والأذن ، تحتاج إليه ، وهو غني عنها ، أمكنك حينئذ أن تفهم إثبات السمع والبصر للّه سبحانه ، وكذا بقية الإدراك ، مع استغنائه في ذلك عن الجوارح ، وتعاليه عنها .

وأما نسبة العين إليه : فهي اسم لآياته المبصرة ، التي بها ينظر سبحانه للمؤمين ، وبها ينظرون إليه ، قال تعالى : فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً « * » فنسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقا ، لأنها المرادة بالعين المنسوبة إليه ، وقال تعالى : قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها « 1 » وعلى هذا يتنزل قوله تعالى : وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا « 2 » أي بآياتنا تنظر بها إلينا ، وننظر بها إليك ، ويؤيد أن المراد هنا يالأعين الآيات :

كونه علل بها الصبر لحكم ربه ، وعلله بآيات القرآن صريحا في قوله تعالى :

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ « 3 » .

قال تعالى في سفينة نوح : تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بآياتنا وعنايتنا ، بدليل قوله تعالى : وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها « 4 » وقال تعالى في موسى ( عليه السلام ) : وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك : أَنْ

أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ « 1 » ويؤيد أن المراد ذلك كونه ظرف صنعه على عينه؛ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ فمن تدبر ذلك علم صحة ما قلناه ، وفتح له باب عظيم في تفسير كلام اللّه بعضه ببعض.



 

 

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!