المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
مرآة العارفين ومظهر الكاملين في ملتمس زين العابدين
للشيخ أبي المعالي صدر الدين بن إسحق القونوي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أخرج من النون ما أدرج في القلم، وأبرز إلى الوجود ما أكنز في العدم، وأفتق ما أرتق وأظهر ما أكتم، وعلّم بالقلم الملقب بأمّ الكتاب واللوح المحفوظ المسمّات بالكتاب المبين ما لم يعلم، وفصّل وقدّر في النفس ما في العقل أجمل، وقضى وأخرج اللوح بيمينه من يسار القلم، كما أخرج حوّاء من جنب آدم، وقال: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ - وهي العقل - وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها - وهي النفس - وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً - وهي العقول والنفوس».
وفتح به «الهاء» الموسوم بالهيولى والعنقاء صورة العالم، وفتق السموات والأرض من الرتق المكنّى بالعنصر الأعظم؛ فسبحان من عيّن الأعيان بالفيض الأقدس الأقدم، وكوّن الأكوان بالفيض المقدس المقدم، واظهر القدم بالحدوث والحدوث بالقدم، ونشر الرق المنشور وكتب الكتاب المسطور عدد مداد الوجودي المبرز، فاكمن في باطن المتكلم من الحروف والكلمات التامات والأتم، واثبتها فيه وأرقم، ورتّبها ونظم، وكلّمها واتم، وفي الفاتحة ما فصل في الكتاب ادرج وادغم، وما أدرج في الفاتحة ستر في البسملة، وما فيها ستر في «الباء» وأبطن، وما أبطن في «الباء» في النقطة أضمروا بهم.
و صلى الله على الاسم الأعظم والردّ الأعلم والممد الهمم بالقيل الأقوم، محمد، الذي فتح به الكتاب وختم، وبيّن به الباطل والحق والنور من الظلم، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإني أجبت سؤالك أيها الولد الصالح لما سألتني أن أرقم وأثبت لك في هذا المختصر شيئا مما قدر الله تعالى وخاصته لي في تحقيق فاتحة الكتاب التي هي أمّ الكتاب، والكتاب المبين بلسان أهل الله تعالى وخاصّته، وسمّيته: «مرآة العارفين ومظهر الكاملين في ملتمس زين العابدين» واسأل العون في إتمامه من موجد الكون، فإنه المستعان وعليه التكلان.
اعلم أيها الولد المؤيّد! أن العالم عالمان: عالم الأمر وعالم الخلق، وكل واحد منهما كتاب من كتاب الله تعالى، ولكل كتاب فاتحة، وجميع ما في الكتاب مفصّل في فاتحته، ومجمل باعتبار إجمال ما فصّل الكتاب فيها، سميت بأمّ الكتاب، وباعتبار تفصيل ما أجمل فيها في يلى مرتبتها سمّى مرتبة التفصيل بالكتاب المبين، وكل موجود في هذا، حروف باعتبار، وسورة باعتبار، وفرد منقطع باعتبار، ومركب باعتبار، لانّا إذا نظرنا في ذات كل موجود من غير أن ننظر في وجوهها وخواصها وعوأرضها ولوازمها وحدها، مجردة عن الكل.
فباعتبار تجردها عن الكل سميناها حرفا، فإذا نظرناها التي وجوهها وخواصها وعوارضها ولوازمها وأضفناها إليها، فباعتبار إضافتنا الكل إليها، سميناها كلمة، وباعتبار تجرّد كلّ موجود عن المضافات والمنسوبات وتميّز بعضها عن البعض، سميّت حرفاً، مجردة مقطّعة مفردة، وباعتبار عدم تجردها عن المضافات والمنسوبات، وعدم تميّز بعضها عن البعض، بل تداخل بعضها عن البعض، سمّيت ألفاظا مركّبة، وباعتبار تمييز المراتب الكليات بعضها عن البعض ووقوع كل موجود في مرتبته، سميّت سورًا.
إذا فهمت هذا، واعلم أيضاً: أن الحق تعالى وتقدس مبدأ الكل ومعاده: «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» و: «وَإلى اللَّهِ الْمَصِيرُ» و: «وَإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» ولابدّ أن يكون الكل فيه، قبل كونه، إذ ثبت أنه كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان.
فذات الحق سبحانه باعتبار اندماج الكل فيها: أمّ الكتاب، وعلمه هو الكتاب المبين - باعتبار التفصيل ما اندرج في الذات فيه - ولظهور ما كمن فيها به؛ فعلمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، إذ جميع الأشياء فيها مندرجة، كاندراج الشجرة في النواة، فالعلم الذي قلنا فيه هو الكتاب المبين، مرآة للذات التي قلنا فيها إنها هي أمّ الكتاب، والذات ظاهرة فيه، لأن العلم هو أول ما تعيّن به الذات، فالذات هي أمّ الكتاب من الحقائق الإلهية، والعلم هي الكتاب المبين من الحقائق الإلهية، كما أن العلم هي أمّ الكتاب من الحقائق الكونية، واللوح المحفوظ هو الكتاب من الحقائق الكونية.
فبين الذات والقلم مضاهاة من جهة الإجمال والكلية، وكون الأشياء فيها، وكذلك بين العلم واللوح مشابهة من جهة التفصيل ومن جهة ظهور الأشياء فيها على الوجه الجزئي، فالقلم من هذا الوجه في المرتبة الكونية مرآة للذات، فما في الذات مندرج على الوجه الكلي والإجمال، وهو في القلم مودّع على الوجه الكلي والإجمال، واللوح المحفوظ أيضاً من هذا الوجه في المرتبة الكونية مرآة للقلم، فما في القلم ظاهر على الوجه الكلي والإجمال فهو في اللوح ظاهر على الوجه الجزي والتفصيل.
فكما علمت أن العالم كتابا مجملا ملقبّا بأمّ الكتاب، وكتابا مفصّلا موسوماً بالكتاب المبين، والكتاب المجمل هو العقل، والكتاب المفصل هو اللوح المحفوظ؛ واعلم كذلك أن لعالم الملك كتاباً مجملاً وهو العرش، وكتاباً مفصلاً وهو الكرسي، فباعتبار اندراج ما يريد أن يتفصّل في الكرسي وفي العرش، يقال له أمّ الكتاب، وباعتبار تفصيل ما كان مجملاً وهو في الكرسي مفصلاً، يقال له الكتاب المبين، فبين العرش والقلم مضاهاة من جهة الإجمال والكلية، وكون الأشياء فيها على الوجه الكلى، وكذلك بين الكرسي واللوح المحفوظ مناسبة من جهة مظهريّتهما للتفصيل من جهة تقسيم الأمر الواحد فيهما بالقسمين، ومن ظهور الأشياء فيهما على الوجه الجزئي والتفصيل.
فالعرش من هذا الوجه في المرتبة الحسية مرآة للقلم: فما في القلم مندرج على الوجه الكلي والإجمال، فهو في العرش مندرج على الوجه الكلي والإجمال.
و الكرسي أيضاً من هذا الوجه في المرتبة الحسية مرآة اللوح، فما في اللوح ثابت على الوجه الجزئي والتفصيل، فهو في الكرسي ثابت على الوجه الجزئي والتفصيل، فالقلم المكنّى بالعقل نموذج الذات ومرآتها ومظهرها ومنصتها ومجلاها، واللوح المسمى بالنفس نموذج القلم ومرآته ومظهره ومنصته ومجلاه، والكرسي نموذج اللوح ومرآته ومظهره ومنصته ومجلاه، فالعقل نسخة الذات واللوح نسخة القلم والعرش نسخة العقل والكرسي نسخة اللوح والإنسان الكامل هو النسخة الكاملة الجامعة لجميع النسخ، وهو المستخرج والمستنبط من الكل وهو الجامع بين الحقائق الإلهية والكونية.
فكما أن ذات الحق كتاب كلّي جملي وأمّ جامع لجميع الكتب قبل تفصيلها، وعلمه بنفسه، كتاب مبين تفصيلي مفصّل مبيّن فيه ما كان في الذات مجملا، كذلك الإنسان الكامل كتاب جملي وأمّ جامع لجميع الكتب بعد تفصيلها، وعلمه بنفسه كتاب مبيّن تفصيلي، مفصّل مبيّن جامع فيه ما كان في الإنسان الكامل مجملا.
فعلم الإنسان الكامل بنفسه مرآة للإنسان الكامل، ظاهر فيه متميّز به، كما أن علم الحق بذاته مرآة لذاته، وذاته ظاهرة فيه ومتعيّنة به، فبين ذات الحق والإنسان الكامل مضاهاة من جهة الكلية والإجمال، وكون الأشياء فيهما، وبين علم الحق وعلم الإنسان الكامل مضاهاة من جهة مظهريتّه، لتفصيل ما أجمل في الإنسان الكامل، فالإنسان الكامل مرآة تامة للذات، بسبب هذه المضاهاة، والذات متجلية على الوجوه الكلية والجمليّة عليها وظاهرة بها فيها.
وعلم الإنسان الكامل مرآة لعلم الحق، وعلم الحق متجلّ عليها: ظاهر بها فيما في الذات مندرج على الوجه الكلي والإجمال: فهو في الإنسان الكامل مندرج على الوجه الكلي، وما في علم الحق ظاهرة على الوجه الجزئي والتفصيلي، وهو في علم الإنسان الكامل ظاهر على الوجه الجزئي والتفصيلي، بل علمه علمه وذاته ذاته، بلا اتحادٍّ معه، ولا حلول فيه، ولا صيرورته هو، فإنّه محال؛ لأن الإتحاد يحصل من الموجودين، وكذلك الحلول، وما ثم إلا وجودًا واحدًا، والأشياء موجودة به معدومة بنفسها، فكيف يتّحد به من هو موجود به، معدوم بنفسه، ولو تسمع الإتحاد من أهل الله أو تجد في مصنفاتهم، فلا تفهم منه ما فهمت من الإتحاد الذي قلنا فيه أنه يحصل من الموجودين، إذ ليس مرادهم بالاتحاد إلا شهود الوجود الحق الواحد المطلق الذي الكل به موجود، فيتحد به الكل من حيث كون كلّ شيء موجودًا به معدومًا بنفسه، لا من حيث أنّ وجودًا خاصًّا اتّحد به، فإنه مُحال.
و لهذا الوجود الواحد ظهور وهو العالم، وبطون وهو الأسماء، وبرزخ جامع فاصل بينهما ليتميّز به الظهور عن البطون، وهو الإنسان الكامل، فالظهور مرآة للبطون والبطون مرآة للظهور، وما كان بينهما فهو مرآة لهما- جمعاً وتفصيلاً-.
فإذا تقرّر هذا فلنرجع إلى ما كنّا بسبيله ونقول: كان بين ذات الحق والإنسان الكامل، وعلم الحق وعلم الإنسان الكامل، مضاهاة، وإن كل ما فيها مجمل فهو فيها مجمل وكل ما فيه مفصّل فهو مفصّل، فكذلك بين القلم وروح الإنسان الكامل واللوح المحفوظ وقلب الإنسان الكامل والعرش وجسم الإنسان الكامل والكرسي ونفس الإنسان الكامل مضاهاة، وكلّ واحد منها مرآة لما يضاهيه، فكلّ ما في القلم مجمل فهو في روحه مجمل، وكل ما في اللوح مفصل فهو في قلبه مفصّل، وكل ما في العرش مجمل فهو في جسمه مجمل، وكل ما في الكرسي مفصّل فهو في نفسه مفصّل.
فالإنسان الكامل كتاب جامع لجميع الكتب الإلهية والكونية، وكما قلنا في حق الحق: أن علمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، وأنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته، فكذلك نقول في حق الإنسان الكامل: أن علمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، وأنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته، لأنه هو جميع الأشياء- إجمالاً وتفصيلاً- فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، وعرف جميع الأشياء.
ففكرك يا ولدى فيك يكفيك، فليس شيئاً خارجاً عنك، كما قال مقتدى العارفين- علي بن أبى طالب كرّم الله وجهه ورضى الله عنه-:
دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك و ما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الوجود ونفس الوجود *** وما بك يوجد لا يُحصر
وأنت الكتاب المبين الذي *** بأحرفه يظهر المُضمر
فلا حاجةٌ لك من خارج *** وفكرك فيك وما تفكر
وكما قال خاتم الولاية الخاصة المحمدية الشيخ الأكبر رضي الله عنه:
أنا القرآن و السبع المثاني *** وروح الروح لا روح الأواني
فؤادي عند مشهودي مقيم *** يشاهده وعندكم لساني
أما تسمع كيف يقول الله سبحانه وتعالى: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فمن قرأ هذا الكتاب فقد علم ما كان و ما هو كائن و ما هو سيكون، فإن لم يقرأ تمامه: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ».
ألا ترى كيف يقول الله سبحانه و تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».
وكيف يقول: «الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» و«الألف» يشار به إلى الذات الأحدية، أي: الحق من حيث هو أول الأشياء في أزل الآزال، و«اللام» يشار به إلى الوجود المنبسط على الأعيان، لأن «اللام» له قائمة وهي «الألف» وله ذيل وهو «النون» و«النون» عبارة عن دائرة الكون، فاتصال القائمة بالذيل، انبساط الوجود على الكون، فالقائمة ظل «الألف» الذاتي المنبسط على الكون، و«الميم» يشار به إلى الكون الجامع، وهو الإنسان الكامل، فالحق والعالم والإنسان، كتاب لا ريب فيه.
حكي أنه غلب جيش علي كرّم الله وجهه على جيش الشام - في القتال الذي وقع بينهما بواسطه قتل عثمان رضى الله عنه - علق حزب الشام الكتاب الإلهي من الرماح، لا يتركهم حزب علي ولا يقتلهم ولا يهزمهم، فلما رأوه منهم تركوهم وتركوا القتال، قال علي كرم الله وجهه: يا قوم! أنا كتاب الله الناطق وهذا كتاب الله الصامت، اهزموهم ولا تتركوهم! وكذلك قال الله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ».
فهذا يا ولدي هو الكتاب، فأنت الكتاب، كما قلناه، وعلمك بك علمك بالكتاب: «وَ لا رَطْبٍ- وهو عالم الملك- ولا يابِسٍ- وهو عالم الملكوت واعلى منه- إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
وأما الكتاب الذي أنزل على الإنسان الكامل، فهو بيان المراتب الكلية الجمليّة والتفصيلية الجزئية الإنسانية، فهو بيان كتاب الإنسان الكامل ومراتبه جمعية تفاصيله، ليبيّن ويعرّف مقاماته ومراتبه وأطواره وأدواره وذاته وصفاته وأفعاله، لأنه يحكى عن الذات والأسماء والصفات والأفعال، وعن العوالم وأهلها، ومراتب العوالم ومراتب أهلها، ومراتب أحوال العالم وأحوال أهلها في كل موطن من المواطن، وعن أجزاء العالم وأجزاء أهلها - إجمالا وتفصيلا-.
فهذه تفاصيل مراتب الإنسان الكامل، والإنسان الكامل مجموع جميعها، فثبت أن هذا الكتاب معرّف للإنسان الكامل ومبيّن مراتب الكلية والجزئية.
وإذا تقرر هذا فاعلم أن لهذا الكتاب المنزل على الإنسان الكامل أيضاً فاتحة تسمى بأمّ الكتاب، وجميع ما في الكتاب مفصل فهو فيها مجمل، وما فيها مجمل فهو في الكتاب مفصل، والفاتحة في البسملة والبسملة في «الباء» و«الباء» في النقطة مندرجة مندمجة، فهي أمّ الكتاب، وجميع الكتاب كامنة فيها، بل الحروف المقطعات، والمقطعات والموصّلات، والألفاظ والكلمات والسّور والكتب عن انبساطها وتعيّنها بجميعها؛ فاندراج الكل فيها عبارة عن عدم انبساطها، إذ ما ثم شيء غيرها.
فمن عرف ما قلناه فقد عرف معنى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ولَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» فمدّ الظّل عبارة عن انبساط النقطة الوجوديّة وتعيّنها بتعيّنات الحروف والكلمات الإلهية والكونية، والكون عبارة عن انبساط النقطة الوجودية بتعينات الإلهية والكونية، وبقائها على بساطتها المبنيّة عليها في قوله تعالى: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أُعرف».
فهذه النقطة البائية إشارة إلى النقطة الوجودية، و«الباء» في البسملة إشارة إلى أمّ الكتاب وهو القلم، ولا ريب أنه كان فيها مندرجا، والبسملة إشارة إلى أمّ الكتاب الثاني وهو العرش، ولا شك أن العرش مندرج في القلم الذي هو العلم، والفاتحة إشارة إلى أمّ الكتاب الجامع للجميع، وهو الإنسان الكامل، ولا شك أن الإنسان قبل ظهوره مندرج في جميع المراتب، كاندراج الكل فيه بعد ظهوره. وانبساط النقطة في ذاتها إشارة إلى الكتاب المبين الأول، وانبساط «الباء» بـ«السين» اشارة إلى الكتاب المبين الثاني، وتفصيل حروف البسملة وتداخل بعضها ببعض إشارة إلى الكتاب المبين الثالث، وتكرار ما في البسملة في الفاتحة وتناظر بعضها للبعض، إشارة إلى علم الإنسان الكامل بذاته، وجميع القرآن غير الفاتحة إشارة إلى مراتب العوالم وأجزائها؛ فافهم!
فاذا تقرر هذا فاعلم! أن الفاتحة تنقسم بقسمين وتنتصف بنصفين، وثالثهما جامعهما، كما روي عن أبى هريرة رضى الله عنه، وهو يروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أنه قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج» أي: غير تمام، فقيل لأبى هريرة رضى الله عنه: إنا نكون وراء الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يقول الله: ذكرني عبدي، وإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يقول الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: يقول الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، واذا قال العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: يقول الله: مجدني عبدي. وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، يقول الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فاذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولَا الضَّالِّينَ، يقول الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدى ما سأل».
فمن «أول الفاتحة» إلى «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»، متعلق بالحق الصرف، ومن «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر الفاتحة متعلق بالعبد الصرف، وأما «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، فهو متعلق بالحق والعبد.
ولتحقيق هذه الأقسام وتبيينها ما رسمنا دائرة وقسمناها بقسمين- بسبب خط مار بينهما- وجعلنا قسماً للحق وقسماً للعبد، وقسماً مشتركاً بينهما، وهي هذه:
بسم الله الرحمن الرحيم دائرة الفاتحة واعلم أن هذه الدائرة كلية مشتملة على جميع الموجودات، جبروتها وملكوتها وما بينهما، وما يتعلق بالحق منها سمّي الجبروت، وما يتعلق بالعبد قسمنا قسمين: قسم سمّي بالملكوت، وقسم سمّي بالمُلك، فإن للعبد روحاً وجسماً: روحه شامل للملكوت، وجسمه شامل للمُلك، وما يتعلق بالحق أو العبد معاً، سمّي بالحقيقة الكلّية الإنسانية، والقسم الذي يتعلق بالعبد.
فكما قسّم بقسمين وسمّي كلّ قسم باسم؛ كذلك خصّص قسم منها بأهل السعادة والهداية، وقسم بأهل الشقاوة والضلالة، وهو: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولَا الضَّالِّينَ».
وذلك لأن عالم الجبروت جامع للجلال والجمال، ولابدّ أن يكون لهما مظهران، ليظهر بهما حكمها، فأهل السعادة والهداية وهم أصحاب اليمين، مظهر الجمال، وأما أصحاب الشقاوة والضلالة، وهم أصحاب الشمال، مظهر الجلال، ولابدّ أن يكون لهما أيضاً مظهران ليظهرا بهما وفيهما أحكامهما وأخلاقهما وأعمالهما، وهما الجنة والنار، ومجموع ذلك مندرج في القسم الذي يتعلق بالعبد.
وأما القسم المتعلق بالحق والعبد معاً، الذي سمّي بالحقيقة الإنسانية، فهو مرتبة أهل الكمال ومقام المطّلع، ومنزلة الإشراف على الأطراف، وموطن الأعراف، وفيه رجال، كما قال الله تعالى: «وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» لأنهم محيطون على الكل، ولهم الكمال المتعلق بالذات والجمال والجلال، وأرباب هذا الموطن هم العارفون الموحدون.
و إذا تقرر هذا- والله أعلم- فاعلم! أن [في] هذا البرزخ يتصف الحق بصفات العبد من الضحك والبشاشة والفرح والاستهزاء، والعبد يتصف بصفات الحق من الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والأحياء والأمانة والانقباض والانبساط والتصرف في الأكوان وغير ذلك.
فهذا البرزخ هو مرتبة تنزل الرباني ليتصف الربّ فيها بصفات العبداني ومرتبة ارتقاء العبداني ليتصف العبد فيها بصفات الربّاني، فهي «العماء» المذكور في الحديث المشهور، لولا أنى أخاف من التطويل والإعراض عن التوجّه والذكر في هذه الأوقات الشريفة، لكنت أبسط الكلام في هذه المرتبة البرزخية العمائية وأسرارها، فأخذت لذلك عِنان البيان والكلام واكتفيت على ما يليق بهذا المختصر.
فثبت على ما قررناه أنّ فاتحة الكتاب جامعة لجميع العوالم والمراتب، والعوالم التي هي الكتاب أو الكتب، وجميع المراتب والعوالم فيها مندرجة مندمجة، ولذلك سمّيت بأمّ الكتاب.
وأما البسملة الموسومة بأمّ «اللّام» فهي أيضاً على قسمين، وما بينهما فهو منهما: قسم منها متعلق بالذات وهو الـ«بسم» وقسم يتعلق بالصفات، وهو «الرَّحْمن الرَّحِيم»، وما بينهما فهو جامع القسمين، وفاصلهما وهو «الله» وإن شئت أن ترسم عليها [دائرة] فارسم، فاجعلها مقوّسين؛ بسبب تخطيط خط مارّ في وسطها، فأثبت الـ«بسم» في قوسي اليمين، و«الرَّحْمن الرَّحِيم» في قوسي اليُسرى، والجلالة في البرزخ، لأنها اسم الذات الموصوفة بجميع الصفات، فهي برزخ من حيث جمعيتها للقسمين، وهي هذه الدائرة المذكورة:
واعلم أيضاً: أن البسملة الشريفة مشتملة على ثلاثة أسماء وهي: «الجلالة» و«الرّحمن» و«الرّحيم».
أما «الجلالة»: فهي مشتملة على جميع الأسماء الفاعلة والقابلة والحقيقة المستعدة للفاعلة والقابلة.
فارسم فيها دائرة أخرى - كما قلت لك - واثبت الفاعلة في اليمين والقابلة في اليسرى، والحقيقة المستعدة لهما في البرزخ كما تراه.
وأما «الرحمن» فهي اسم للحق باعتبار انبساط الوجود على الأعيان.
و«الرحيم» اسم له باعتبار كل عين اختصاص بحصّة من حصص الوجود، فأحق بنسبة رحمته الامتنانية العامة المخصوصة بـ«الرحمن»، والوجوبية الخاصة بـ«الرحيم»، تريد ظهور المرحوم ليظهر به راحميته ورحمانيته، وبأعمال المرحومين عند إعطاء جزائهم رحيميّته، فوقعت نسبة بين المنتسبين، وهما: الراحم والمرحوم.
فإذا فهمت فارسم دائرة لاسم «الرحمن» فافعل فيها ما فعلت في غيرها واثبت اسم «الرحمن» في اليمين وكليات جميع الموجودات في اليسرى، لأن رحمة «الرحمن» وسعت كل شيء، فكل من وسعته رحمته فهي المرحوم، وأثبت الرحمة في البرزخ.
وافعل في «الرحيم» ما فعلت في «الرحمن»، إلا أن رحمته الرحيمية رحمة وجوبية متعلقة بالعمل، فمرحومهما المؤمنون الذين يعلمون الصالحات، فأثبت اسم الرحيم في اليمنى وأسماء المؤمنين في اليسرى، والرحمة في البرزخ، وباعتبار حكم الأصول يسرى في الفروع.
لكل حرف من حروف البسملة والفاتحة ولكل سورة إجمالا ولآياتها وكلماتها وحروفها تفصيلا، دائرة مقوسة بقوسين، وبرزخ جامع بينهما، وذلك لا يسع في هذا المختصر ولا في جميع العالم، وكما قال الله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً».
واكتفينا على ما أرقمنا ووقفنا عندما وقفن
«وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ»
والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.