المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
رسالة تهذيب الأخلاق
تنسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
تهذيب الأخلاق
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين .
وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا .
إعلم أن الإنسان - من بين سائر الحيوان - ذو فكر وتمييز ، وهو أبدا يحب من الأمور : أفضلها ومن المراتب أشرفها ، ومن المقتنيات : أنفسها إذا لم يعدل عن التمييز في اختياره ، ولم يغلبه هواه في اتباع أغراضه .
وأولى ما أختاره الإنسان لنفسه ، ولم يقف دون بلوغ غايته ، ولم يرض بالتقصير عن نهايته : تمامه وكماله “ 1 “ .
ومن تمام الإنسان وكماله : أن يكون مرتاضا “ 2 “ بمكارم الأخلاق ، ومحاسنها ، ومتنزها “ 3 “ عن مساويها ومقابحها ، أخذا في جميع أحواله بقوانين الفضائل ، عادلا في كل أفعاله عن طريق
.................................................
( 1 ) يعني ينبغي للإنسان أن يبلغ غاية جهده في تكميل نفسه والسعي بها إلى أعلى الدرجات جهد طاقته .
( 2 ) يعني مدربا على المكارم .
( 3 ) تنزه عن الشيء : بعد عنه وأنفه .
الرذائل ، فإذا كان ذلك كان واجبا على الإنسان أن يجعل قصده اكتساب كل شيمة “ 1 “ سليمة من المعائب ، ويصرف همته على اقتناء كل خيم “ 2 “ كريم ، خالص من الشوائب ، وأن يبذل جهده في اجتناب كل خصلة مكروهة ردية ، ويستفرغ وسعه في إطراح كل خلة مذمومة دنية ، حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ، ويكتسي حلل الجمال بدمائه “ 3 “ شمائله ، ويباهي بحق أهل السؤدد والفخر ، ويلحق بالذرى “ 4 “ من درجات النباهة والمجد .
إلّا أن المبتدىء بطلب هذه المرتبة ، والراغب في بلوغ هذه المنزلة ، ربما خفيت عليه الخلال المستحسنة ، التي يعنيه تحريها ، ولم تتميز له من المستقبحة التي غرضه توقيها .
فمن أجل ذلك ، وجب أن نقول في الأخلاق قولا نبين فيه :
ما الخلق ؟
وما علته ؟
وكم أنواعه ، وأقسامه ؟ ؟
وما المرضي منها المغبوط صاحبه والمتخلق به ؟
وما المشنو “ 5 “ منها ، المقموت فاعله ، والمترسم به ؟
ليسترشد بذلك : من كانت له همة تسمو إلى مباراة أهل الفضل ، ونفس أبية ، تنبو “ 6 “ عن مساواة أهل الدناءة والنقص ، وتدل أيضا على طريق الارتياض بالمحمود من أنواعه ، والتدرب به ، وتنكب
...................................................
( 1 ) الشيمة : الصفة .
( 2 ) سجية وطبيعة .
( 3 ) سهولة الخلق .
( 4 ) الذرى : بضم الذال وفتح الراء : من ذروة الجمل : أعلى مكان فيه .
( 5 ) المكروه منها .
( 6 ) نبا عن الشيء : بعد عنه .
المذموم منها وتجنبه ، حتى يصير المرتاض به ديدنا “ 1 “ وعادة وسجية وطبعا ليهتدي به من نشأ على الأخلاق السيئة وألفها ، وجرى على العادات الردية وأنس بها .
ونصف أيضا الإنسان التام المهذب الأخلاق ، والمحيط بجميع المناقب الجميلة ، وطريقته التي يصل بها إلى التمام ، وتحفظ عليه الكمال ، ليشتاق إلى صورته “ 2 “ من تشوق إلى الرتبة العليا ، ويحن إلى احتذاء سيرته من استشرف إلى الغاية القصوى .
وقد ينتبه بما نذكره من كانت له عيوب قد اشتبهت عليه ، وهو مع ذلك يظهر أنه في غاية الكمال .
فإن من هذه حالة إذا تكرر عليه ذكر الأخلاق المكروهة ، تيقظ لما فيه من ذلك وأنف “ 3 “ واجتهد في تركه والتنزه عنه .
وكذلك إذا تصفح الأخلاق المحمودة ، من كان جامعا لأكثرها ، عادما لبعضها ، قدّم إلى التخلق بذلك البعض الذي هو عادم له ، وتاقت نفسه إلى الإحاطة بجميعها .
وقد ينتفع بما نذكره أيضا من كان في غاية الكمال ، فإن المهذب الأخلاق الكامل الآلات ، الجامع المحاسن ، إذا مرّ بسمعه ذكر الخلائق الجميلة ، والمناقب النفيسة ، ورأى أن تلك هي عاداته وسجاياه ، كانت له بذلك لذة عجيبة ، وفرحة مبهجة ، كما أن الممدوح يسر إذا ذكر المادح نفسه ، ونشر فضائله .
وأيضا فإنه إذا وجد أخلاقه مدونة في الكتب ، موصوفة بالحسن ، كان ذلك داعيا إلى الاستمرار على سيرته ، والإصرار على طريقته .
............................................................
( 1 ) الضمير راجع إلى الخلق ، أي يصير الخلق الذي عود نفسه عليه : عادة له وطبيعة .
( 2 ) أي إلى صورة الإنسان الكامل .
( 3 ) أنف : تنزه عنه .
وهذا حين ابتدائنا بذكر الأخلاق فنقول :
والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا ، وفي بعضهم لا يكون إلّا بالرياضة والاجتهاد ، كالسخاء ، يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ، ولا تعمل ، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل ، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة .
وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك بالرياضة .
ومنهم من يبقى على عادته ، ويجري على سيرته .
الأخلاق المذمومة
فأما الأخلاق المذمومة ، فإنها موجودة في كثير من الناس ، كالبخل ، والجبن ، والظلم ، والشر .
فإن هذه العادات غالبة على أكثر الناس ، مالكة لهم .
بل قلما يوجد في الناس من يخلو من خلق مكروه ، ويسلم من جميع العيوب .
ولكنهم يتفاضلون في ذلك .
وكذلك في الأخلاق المحمودة ، قد تختلف الناس ويتفاضلون ، إلّا أن المجبولين على الأخلاق الجميلة قليلون جدا .
وأما المجبولون على الأخلاق السيئة ، فأكثر الناس ، لأن الغالب على طبيعة الإنسان الشر .
وذلك أن الإنسان إذا استرسل مع طبعه ، ولم يستعمل : الفكر ، ولا التمييز ، ولا الحياء ، ولا التحفظ ، كان الغالب عليه أخلاق البهائم ، لأن الإنسان إنما يتميز عن البهائم بالفكر والتمييز .
فإذا لم يستعملها ، كان مشاركا للبهائم في عاداتها ، والشهوات مستولية عليه ، والحياء غائب عنه ، والغضب يستنفره ، والسكينة غير
حاضرة له ، والحرص والأحقاد ديدنه ، والشر لا يفارقه .
فالناس مطبوعون على الأخلاق الردية ، منقادون للشهوات الدنية .
ولذلك وقع الافتقار إلى الشرائع والسنن ، والسياسات المحمودة ، وعظم الانتفاع بالملوك الحسنى السيرة ، ليردعوا الظالم عن ظلمه ، ويمنعوا الغاصب عن غصبه ، ويعاقبوا الفاجر على فجوره ، فيقمعوا الجائر حتى يعود إلى الاعتدال في جميع أموره.
فالأخلاق المكروهة في طباع الناس .
إلّا أن فيهم من يتظاهر بها ، وينقاد لها ، وهم شرار الناس .
وفيهم من ينتبه بجودة الفكر ، وقوة التمييز لقبحها ، فيأنف منها ، ويتصنع لاجتنابها ، وذلك يكون عن طبع كريم ونفس شريفة .
وفيهم من لا ينتبه لذلك ، إلّا أنه إذا نبه عليه أحسن بقبحه ، فربما حمل نفسه على تركه .
وفيهم من إذا أنتبه لما فيه من النقائص ، أو نبه عليها ، ورام العدول عنها : تعذر عليه ذلك ، ولم يطاوعه طبعه ، وإن كان مريدا للعدول عنها مجتهدا في ذلك .
وهذه الطائفة تحتاج أن ترشد إلى طريق التدرب والتعمل للعادات المحمودة ، حتى يصير إليها على التدريج .
ومن الناس من ينتبه للأخلاق الردية أو ينبه عليها ، فلا يحن إلى تجنبها ، ولا تسمح نفسه بمفارقتها ، بل يؤثر الإصرار عليها ، مع علمه برادءتها وقبحها .
وهذه طائفة ليس إلى تهذيبها طريق ، إلّا بالقهر والتخويف والعقوبة ، إن لم يردعها الترهيب .
في الأخلاق المحمودة
فأما الأخلاق المحمودة فإنها وإن كانت في بعض الناس عزيزة ، فليست في جميعهم ، وإن الباقين قد يمكن أن يصيروا إليها بالتدرب والرياضة ، ويترقوا إليها بالاعتياد والألفة .
ومع هذا الحال فقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادات الحسنة ، ولا الخلق الجميل ، وذلك يكون لرداءة جوهره ، وخبث عنصره .
وهذه الطائفة من جملة الأشرار ، الذين لا يرجى صلاحهم ، وكثير من الناس من يقبل كثيرا من الأخلاق المحمودة ، وينبو طبعه عن بعضها ، وليس يعد هذا شريرا ، ولكن رتبته في الخير بحسب محاسنه .
فأما العلة الموجبة لاختلاف الأخلاق ، وهي النفس ، فللنفس ثلاث قوى ، وهي تسمى أيضا نفوسا .
وهي النفس الشهوانية ، والنفس الغضبية . والنفس الناطقة .
وجميع الأخلاق تصدر عن هذه القوى ، فمنها ما يختص
بإحداهن ، ومنها ما يشترك فيه قوتان ، ومنها ما يشترك فيه القوى الثلاث .
ومن هذه القوى ما يكون للإنسان وغيره من الحيوان .
ومنها ما يختص به الإنسان فقط .
في النفس الشهوانية
أما النفس الشهوانية ، فهي للإنسان ولسائر الحيوان ، وهي التي يكون بها جميع اللذات والشهوات الجسمانية ، كالإقدام إلى المآكل والمشارب ، والمباضعة “ 1 “ .
وهذه النفس قوية جدا ، متى لم يقهرها الإنسان ، ويهذبها ملكته ، فاستولت عليه .
فإذا هي استولت عليه خسر تهذيبها ، وصعب قمعها وتذليلها .
فإذا تمكنت هذه النفس من الإنسان وملكته ، وانقاد لها كان بالبهائم أشبه من بالناس ، لأن أغراضه ومطلوباته وهمته تصير أبدا مصروفة إلى الشهوات واللذات فقط ، وهذه هي عادات البهائم .
ومن يكون بهذه الصفة ، يقل حياؤه ، ويكثر خرقه “ 2 “ ، ويستوحش من أهل الفضل ، ويميل إلى الخلوات “ 3 “ وينقبض عن المجالس الحفلة “ 4 “ ، ويبغض أهل العلم ، ويشنأ أهل الورع
.........................................
( 1 ) المباضعة : كناية عن الجماع .
( 2 ) الخرق : بفتح الخاء والراء : إذا عمل شيئا لم يرفق فيه .
( 3 ) المقصود بالخلوات هنا : أنه يبعد عن أهل الكمال وينعزل عنهم .
( 4 ) بفتح الحاء وكسر الفاء : أي مجالس الجماعات .
والنسك ، ويود أصحاب الفجور ، ويحب الفواحش ، ويكثر ذكرها ، ويلذ له استماعها ، ويسر بمعاشرة السفهاء ، ويغلب عليه الهزل ، وكثرة اللهو .
وقد يصير من هذه حالة إلى الفجور ، وارتكاب الفواحش والتعرض للمحظورات .
وربما دعته محبة اللذات إلى اكتساب الأموال من أقبح وجوهها ، وربما حملته نفسه على الغضب والتلصص ، والخيانة ، وأخذ ما ليس له بحق ، فإن اللذات لا تتم لا بالأموال والأعراض .
فمحب اللذة إذا تعذرت عليه الأموال من وجهها ، جسرته شهوته على اكتسابها من غير وجهها .
ومن تنتهي به شهواته إلى هذا الحد ، فهو أسوأ الناس حالا ، وهو من الأشرار ، الذين يخاف خبثهم ، ويستوحش منهم ، ويستروح إلى البعد عنهم ، ويصير واجبا على متولى السياسات قمعهم وتأديبهم ، وإبعادهم ونفيهم ، حتى لا يختلطوا بالناس ، فإن اختلاط من هذه صفته بالناس مضرة لهم ، وخاصة لاحداثهم ، فإن الحدث سريع الانطباع ، ونفسه مجبولة إلى الميل إلى الشهوات ، فإذا شاهد غيره مرتكبا لها ، مستحسنا للانهماك فيها ، مال هو أيضا إلى الاقتداء به ، وإلى مساعدة لذته .
وأما من ملك نفسه الشهوانية وقهرها ، كان ضابطا لنفسه ، عفيفا في شهواته ، محتشما من الفواحش ، متوقيا من المحظورات محمود الطريقة في جميع ما يتعلق باللذات ، فالعلة الموجبة لاختلاف عادات الناس في شهواتهم ولذاتهم ، وعفة بعضهم ، وفجور بعضهم ، هو اختلاف أحوال النفس الشهوانية ، فإنها إذا كانت مهذبة مؤدبة ، كان صاحبها عفيفا ضابطا لنفسه ، وإذا كانت مهملة مرسلة ، مالكة لصاحبها : كان صاحبها : فاجرا شريرا .
وإذا كانت متوسطة الحال ، كانت رتبة صاحبها في العفة كرتبتها في التأدب .
فمن أجل ذلك وجب أن يؤدب الإنسان نفسه الشهوانية ، ويهذبها حتى تصير منقادة له ، ويكون هو مالكها ، فيستعملها في حاجاته التي لا غنى عنها ، ويكفها عما لا حاجة له إليه من الشهوات الردية ، واللذات الفاحشة .
في النفس الغضبية
وأما النفس الغضبية ، فيشترك فيها أيضا الإنسان وسائر الحيوان .
وهي التي يكون بها : الغضب ، والجراءة ، ومحبة الغلبة .
وهذه النفس أقوى من النفس الشهوانية ، وأضر بصاحبها إذا ملكته وانقاد لها .
فإن الإنسان إذا إنقاد للنفس الغضبية كثر غضبه ، وظهر خرقه ، واشتد حقده ، وعدم حلمه ووقاره ، وقويت جراءته ، وأسرع عند الغضب إلى الانتقام والايقاع بمغضبه ، والوثوب على خصومه ، فأسرف في العقوبة ، وزاد في التشفي “ 1 “ فأكثر السب وأفحش فيه .
فإذا استمرت هذه العادات بالإنسان كان بالسباع أشبه منه بالناس .
وربما حمل قوما “ 2 “ على حمل السلاح .
...................................................
( 1 ) قال في المصباح المنير : “ واشتفيت بالعدو وتشفيت به من ذلك ، لأن الغضب الكامن كالداء ، فإذا زال بما يطلبه الإنسان من عدوه فكأنه برئ من دائه .
( 2 ) مفعول لفعل محذوف تقديره : “ حمل الغضب قوما “ واللّه أعلم .
وربما أقدموا على القتل والجراح .
وربما وثبوا بالسلاح على إخوانهم ، وأوليائهم ، وعبيدهم ، وخدمهم عند الغضب من اليسير من الأمور .
وربما غضب من هذه حالة ، ولم يقدر على الانتقام من خصمه ، فيعود بالضرر والسب والألم على نفسه .
فمنهم من يلطم وجهه ، وينتف لحيته ، ويعض يده ، ويسب نفسه ، ويذكر عرضه .
وأيضا فإن من تملكه “ 1 “ النفس الغضبية يكون محبا للغلبة ، متوليا على من آذاه ، مقدما على كل من ناوأه ، طالبا للترأس من غير وجهة .
فإذا لم يتمكن من الرياسة من وجهها ، توصل إليها بالحيل الخبيثة ، فاستعمل كل ما يمكنه من الشر .
وهذه الأفعال تورط صاحبها ، وتوقعه في المهاوي والمهالك .
فإن من وثب على الناس ، وثبوا عليه ، ومن خاصمهم خاصموه ومن أقدم عليهم أقدموا عليه ، ومن تشرر عليهم قصدوه بالشر .
وربما تسفه الإنسان على خصمه ، وكان الخصم أسفه منه ، فإن ناله بسوء ، قابله ذلك بأكثر منه .
وقد يغلب على من هذه حاله : الحسد ، والحقد ، والقحة “ 2 “ واللجاج “ 3 “ ، والجور .
وقد يحمل هؤلاء محبة الغلبة وطلب الرئاسة على اكتساب
( 1 ) بضم الكاف لأنها في الأصل تتملكه .
( 2 ) القحة : بكسر القاف وفتحها .
( 3 ) في المصباح “ قال ابن فارس : اللجاج تماحك الخصمين ، وهو تماديهما “ .
الأموال من غير وجهها ، وأخذها بالغلبة والظلم .
وربما قتلوا على محبة الغلبة من يناوئهم .
وربما فعلوا ذلك من غير روية ، فيؤول الأمر بهم إلى البوار والاستئصال .
فأما من ساس نفسه الغضبية ، وأدبها وقمعها : كان رجلا ، حليما ، وقورا ، عادلا ، محمود الطريقة .
فالعلة الموجبة لاختلاف عادات الناس في غيظهم وسفاهة بعضهم ، هو اختلاف أحوال النفس الغضبية .
إذا كانت مذللة مقهورة : كان صاحبها حليما وقورا .
وإذا كانت مهملة ، مستولية على صاحبها ، كان صاحبها :
غضوبا ، سفيها ، غشوما .
وإذا كانت متوسطة ، كان صاحبها متوسط الحال ، رتبته في الحلم كرتبة نفسه الغضبية ، حتى تنقاد له فيملكها ويستعملها في المواضع التي يجب استعمالها فيها .
فإن لهذه النفس فضائل محمودة ، وذلك لأن الأنفة من الأمور الدنية ، ومحبة الرئاسة الحقيقية ، وطلب المراتب العالية ، من الأخلاق المحمودة ، وهي في أفعال النفس الغضبية .
فإذا ملك هذه بالتأديب والتهذيب ، واستعملها في الأمور الجميلة ، وكفها عن الأفعال المكروهة ، كان حسن الحال ، محمود الطريقة .
في النفس الناطقة
وأما النفس الناطقة ، وهي التي بها تميز الإنسان من جميع الحيوان .
وهي التي بها يكون الذكر “ 1 “ والتمييز ، والفهم .
وهي التي بها شرف الإنسان وعظمت همته ، فأعجب بنفسه .
وهي التي بها يستحسن المحاسن ، ويستقبح القبائح ، وبها يمكن الإنسان أن يهذب قوتيه الباقيتين ، وهما “ 2 “ : الشهوانية والغضبية ، ويكفهما ويضبطهما وبها يفكر في عواقب الأمور ، فيبادر بإستدراكها في أوائلها .
ولهذه النفس أيضا فضائل ورذائل .
أما فضائلها فباكتساب العلوم والآداب ، وكف صاحبها عن الرذائل والفواحش ، وقهر النفسين الآخرين ، وتأديبهما ، وسياسة صاحبهما في معاشه ومكسبه ومروءته وتجمله ، وحث صاحبها على :
.................................................
( 1 ) بكسر الذال ، وسكون الكاف .
( 2 ) في الأصل : وهي .
فعل الخير ، والتودد ، والرقة ، وسلامة النية ، والحلم ، والحياء ، والنسك ، والعفة ، وطلب الرئاسة من الوجوه الجميلة .
وأما رذائلها : فالخبث ، والحيلة ، والخديعة ، والملق “ 1 “ “ 2 “ والمكر ، والحسد ، والتشرر ، والرياء .
وهذه النفس هي لجميع الناس .
إلّا أن منهم من تغلب عليه فضائلها ، فيستحسنها ويستعملها .
ومنهم من تغلب عليه رذائلها فيألفها ويستمر عليها .
ومنهم من يجتمع فيه بعض الفضائل وبعض الرذائل .
وهذه العادات قد تكون في كثير من الناس سجية وطبعا لا بتكلف .
فأما المطبوع على العادات الجميلة ، فمنها ما يكون لقوة نفسه الناطقة عنصريا .
وأما المطبوع على العادات المكروهة ، فلضعف نفسه الناطقة ، وسوء جوهره .
وأما الذي يجتمع فيه فضائل ورذائل ، فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال .
وقد يكتسب أكثر الناس هذه العادات ، وجميع الأخلاق جميلها وقبيحها إكتسابا .
وذلك يكون بحسب منشأ الإنسان ، وأخلاق من يحيط به ، ويشاهده ، ويقرب منه ، وبحسب رؤساء وقته ، ومن يشار إليه بالنباهة ، ويغبط على رتبته فإن الحدث “ 2 “ الناشئ يكتسب الأخلاق
......................................
( 1 ) في المختار : “ ورجل ملق : يعطي بلسانه ما ليس في قلبه “ .
( 2 ) غير الناشئ .
ممن يكثر ملابسته ومخالطته ، ومن أبويه ، وأهله وعشيرته .
فإذا كان هؤلاء سئ الأخلاق مذمومي الطريقة ، كان الحدث الناشئ بينهم أيضا سيئي الأخلاق ، مكروه العادات .
وإذا لحظ الحدث أيضا أهل الرئاسة ، ومن فوقه ، وغبطهم على مراتبهم : آثر التشبه بهم والتخلق بأخلاقهم .
فإذا كانوا مهذبي الأخلاق حسنى السيرة ، كان المتشبه بهم حسن الأخلاق مرضي الطريقة .
وإن كانوا أشرارا جهالا خرج الغابط لهم ، السالك طريقهم شريرا جاهلا .
وهذه حال أخلاق أكثر الناس ، فإن : الجهل ، والشر ، والخبث ، والشره والحسد ، غالب عليهم .
والناس بالطبع : يقتدي بعضهم ببعض ، ويحتذي التابع أبدا سيرة المتبوع .
وإذا كان الغالب عليهم الشر والجهل ، كان واجبا أن لا يقتدي أحداثهم وأولادهم وأتباعهم بهم .
فالعلة الموجبة لاختلاف قوة النفس : اختلاف الناس في سياساتهم وفضائلهم ، وغلبة الخير والشر عليهم ، من اختلاف قوة النفس الناطقة فيهم إذا كانت خيرة ، فاضلة ، قاهرة للنفسين الباقيتين ، كان صاحبها خيرا عادلا حسن السيرة ، وإذا كانت شريرة ، خبيثة مهملة للنفسين الآخريين ، كان صاحبها شريرا خبيثا جاهلا .
فمن أجل ذلك ، وجب أن يعمل الإنسان فكره ، ويميز أخلاقه ، ويختار منها ما كان جيدا مستحسنا جميلا ، وينفي منها ما كان مستنكر
قبيحا ، ويحمل نفسه على التشبه بالأخيار ويتجنب كل التجنب عادات الأشرار .
فإنه إذا فعل ذلك صار بالإنسانية متحققا ، وللرئاسة الذاتية “ 1 “ مستحقا .
..............................
( 1 ) الرئاسة الذاتية : أي يترأس نفسه ويملكها ، ولا تملكه .
في أنواع الأخلاق وأقسامها
فأما أنواع الأخلاق وأقسامها ، وما المستحسن منها وما المستحب اعتياده ويعد فضائل ، وما المستقبح منها وما المكروه ويعد نقائص ، ومعائب ، فهي الأنواع التي نحن واصفوها :
أما التي تعد فضائل ، فإن منها العفة ، وهي : ضبط النفس عن الشهوات ، وقسرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته ، واجتناب السرف ، والتقصير في جميع اللذات ، وقصد الاعتدال ، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشهوات على الوجه المستحب ، المتفق على ارتضائه ، وفي أوقات الحاجة التي لا غنى عنها ، وعلى القدر الذي لا يحتاج إلى أكثر منه ، ولا يحبس النفس والقوة أقل منه .
وهذه الحال هي غاية العفة .
ومنها القناعة ، وهي الاقتصار على ما سنح من العيش ، والرضى بما يسهل من المعاش ، وترك الحرص على اكتساب الأموال ، وطلب المراتب العالية ، مع الرغبة في جميع ذلك وإيثاره والميل إليه ، وقهر النفس على ذلك ، والتمتع باليسير منه .
وهذا الخلق مستحسن من أوساط الناس وأصاغرهم .
وأما الملوك والعظماء فليس ذلك مستحبا منهم ، ولا تعد القناعة من فضائلهم .
ومنها التصون ، وهو التحفظ من التبذل . فمن التصون :
التحفظ من الهزل القبيح ، ومخالطة أهله ، وحضور مجالسه ، وضبط اللسان من الفحش ، وذكر الخنا والقبيح ، والمزاح السخيف ، وخاصة في المحافل ، ومجالس المحتشمين .
ولا أبهة لمن يسرف في المزاح ، ويفحش فيه .
ومن التصون أيضا الإنقباض عن أدنياء الناس وأصاغرهم ، ومصادقتهم ، ومجالستهم والتحرز من المعايش الردية ، واكتساب الأموال من الوجوه الخسيسة ، والترفع عن مسألة الحاجات للئام الناس وسفلتهم ، والتواضع لمن لا قدر له ، والإقلال من البروز من غير حاجة والتبذل بالجلوس في الأسواق وقوارع الطرق من غير اضطرار .
فإن الإكثار من ذلك مخل .
وأعظم الناس قدرا عند الخلق : من ظهر اسمه وخفي شخصه .
وأما الحلم وهو ترك الانتقام عند شدة الغضب ، مع القدرة على ذلك ، وهذه محمودة ما لم تؤد إلى ثلم “ 1 “ جاه أو فساد سياسة .
وهي بالرؤساء والملوك أحسن ، لأنهم أقدر على الانتقام من مغضبيهم ، ولا يعد فضيلة : حلم الصغير عن الكبير : وإن كان قادرا على مقابلته في الحال .
فإنه وإن أمسك ، فإنما يعد ذلك خوفا لا حلما .
ومنها الوقار ، وهو الإمساك عن فضول الكلام ، والعيب وكثرة الإشارة ، والحركة فيما يستغني عن الحركة فيه ، وقلّة الغضب ،
.............................................
( 1 ) الثلم : الخلل .
والإصغاء عنه الاستفهام ، والتوقف عند الجواب ، والتحفظ عن التسرع ، والمبادرة في جميع الأمور .
ومن قبيل الوقار أيضا : الحياء ، وهو غض الطرف والانقباض عن الكلام حشمة للمستحيا منه .
وهذه العادة محمودة ما لم تكن عن عي “ 1 “ ولا عجز .
ومنها : الود ، وهي : المحبة المعتدلة من غير اتباع الشهوة ، والود مستحسن من الإنسان إذا كان وده لأهل الفضل والنبل ، وذوي الوقار والأبهة ، والمتميزين من الناس .
وأما التودد إلى أراذل الناس وأصاغرهم ، والأحداث ، والنسوان ، وأهل الخلاعة ، فمكروه جدا .
وأحسن الود ما ينتجه بين متآلفين : مناسبة الفضائل ، وهو أوثق الود ، وأثبته .
وأما ما كان ابتداؤه اجتماعا على هزل أو لطلب لذة ، فليس هو محمودا ، وليس بباق ، ولا ثابت .
ومنها : الرحمة ، وهو خلق مركب من الود والجزع .
والرحمة : لا تكون إلّا لمن ظهر منه لراحمه خلة مكروهة .
إما نقيصة ، وإما محنة عارضة .
فالرحمة هي محبة للمرحوم ، مع جزع من الحال التي من أجلها رحم .
وهذه الحال مستحسنة ، ما لم تخرج بصاحبها عن العدل ، ولم تنته به إلى الجور ، وإلى فساد السياسة ، فليس بمحمود رحمة القاتل عند القود ، والجاني عند القصاص .
.......................................................
( 1 ) العي : بكسر العين : عدم الاهتداء للوجه الذي يريده والعي ضد البيان .
ومنها : الوفاء ، وهو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه ، ويرهن به لسانه ، والخروج مما يضمنه ، وإن كان مجحفا به ، فليس يعد وفيا من لم يلحقه بوفائه أذية وإن قلت . وكلما أضر به الدخول تحت ما يحكم به على نفسه ، كان أبلغ في الوفاء .
وهذا الخلق محمود ، ينتفع به جميع الناس .
فإن من عرف بالوفاء ، كان مقبول القول ، عظيم الجاه ، إلّا أن انتفاع الملوك بهذا الخلق ، أكثر ، وحاجتهم إليه أشد .
وإنه متى عرف منهم قلة الوفاء ، لم يوثق بمواعيدهم ، ولم تتم أغراضهم ، ولم يسكن إليهم جندهم وأعوانهم .
ومنها أداء الأمانة ، وهو التعفف عما يتصرف الإنسان فيه من مال وغيره ، وما يوثق به وعليه من الأعراض ، والحرم “ 1 “ مع القدرة عليه ، ورد ما يستودع إلى مودعه .
ومنها : كتمان السر .
وهذا الخلق مركب من الوقار ، وأداء الأمانة .
فإن إخراج السر من فضول الكلام .
وليس بوقور من تكلم بالفضول .
وأيضا ، فكما أن من أستودع مالا فأخرجه إلى غير مودعه ، فقد خفر الأمانة ، كذلك من استودع سرا فأخرجه إلى غير صاحبه ، فقد خفر الأمانة “ 2 “ .
وكتمان السر محمود من جميع الناس ، وخاصة ممن يصحب
..........................................................
( 1 ) الحرم : بضم الحاء وفتح الراء .
( 2 ) خفر الأمانة : اضاعها .
السلطان ، فإن إخراجه أسراره - مع أنه قبيح - يؤدي إلى ضرر عظيم ، يدخل عليه من سلطانه .
ومنها : التواضع ، وهو ترك الترأس ، وإظهار الخمول ، وكراهية التعاظم والزيادة في الإكرام ، وأن يتجنب الإنسان المباهاة بما فيه من الفضائل والمفاخرة بالجاه والمال ، وأن يتحرز من الإعجاب والكبر .
وليس يكون حسن التواضع إلّا في أكابر الناس ورؤسائهم ، وأهل الفضل والعلم .
وأما سوى هؤلاء ، فليس يكونون متواضعين ، لأن الضعة هي محلهم ورتبتهم ، فهم غير متضعين “ 1 “ لها .
ومنها البشر “ 2 “ وهو إظهار السرور بمن يلقاه الإنسان من إخوانه وأودائه وأصحابه وأوليائه ومعارفه ، والتبسم عند اللقاء .
وهذا الخلق مستحسن من جميع الناس ، وهو من الملوك والعظماء أحسن .
فإن البشر في الملوك يتألف به قلوب الرعية والأعوان والحاشية ، ويزداد به تحببا إليهم .
وليس سعيدا من الملوك من كان متبغضا إلى رعيته .
وربما أدى ذلك إلى فساد أمره ، وزوال ملكه .
ومنها : صدق اللهجة ، وهو الإخبار عن الشيء على ما هو به .
وهذا الخلق مستحسن ، ما لم يؤد إلى ضرر مجحف ، فإنه ليس بمستحسن صدق الإنسان إن سئل عن فاحشة كان ارتكبها ، فإنه
....................................................
( 1 ) لأن هناك فرقا بين المتواضع من الرفعة ، والوضيع بطبعه .
( 2 ) بكسر الباء وسكون الشين .
لا يفي حسن صدقه بما يلحقه في ذلك من العار والمنقصة الباقية اللازمة .
وكذا ليس يحسن صدقه متى سئل عن مستجير استجاره فأخفاه ، ولا إن سئل عن جناية متى صدق عنها عوقب عليها بعقوبة مؤلمة .
والصدق مستحسن من جميع الناس ، وهو من الملوك والعظماء أحسن ، بل لا يسعهم الكذب ، ما لم يعد الصدق عليهم بضرر .
ومنها سلامة النية ، وهو اعتقاد الخير لجميع الناس ، وتجنب :
الخبث “ 1 “ والغيبة ، والمكر ، والخديعة .
وهذا الخلق محمود من جميع الناس ، إلّا أنه ليس يصلح للملوك التخلق به دائما ، ولا يتم الملك إلّا باستعمال المكر والحيل والاغتيال مع “ 2 “ الأعداء .
ولكن لا يحسن بهم استعماله مع أوليائهم ، وأصفيائهم ، وأهل طاعتهم .
ومنها السخاء ، وهو : بذل المال من غير مسألة ولا استحقاق ، وهذا الفعل مستحسن ، ما لم ينته إلى السرف والتبذير ، فإن بذل جميع ما يملك لمن لا يستحقه ، لم يسم سخيا ، بل يسمى مبذرا مضيعا .
والسخاء في سائر الناس فضيلة مستحسنة ، فأما في الملوك فأمر واجب ، لأن البخل يؤدي إلى الضرر العظيم في ملكهم ، والسخاء والبذل يرتهن به قلوب الرعية والجند والأعوان ، فيعظم الانتفاع به .
................................................
( 1 ) بضم الخاء وسكون الباء .
( 2 ) ذلك لأن العدو إن لم تمكر به مكر بك ، وإن لم تغتله اغتالك ، ولكن يجب أن تعلم أنه ليس بين المسلمين عداوة ، وحروب هذه الأيام من المسلمين بعضهم مع بعض حروب جاهلية وكفر واللّه أعلم .
ومنها الشجاعة ، وهو : الإقدام على المكاره والمهالك ، عند الحاجة إلى ذلك ، وثبات الجأش عند المخاوف ، والاستهانة بالموت .
وهذا الخلق مستحسن من جميع الناس ، وهو بالملوك وأعوانهم أليق وأحسن ، بل ليس بمستحق للملك من عدم هذه الخلة .
وأكثر الناس أخطارا وأحوجهم إلى اقتحام الغمرات ، هم الملوك ، فالشجاعة من أخلاقهم الخاصة بهم .
ومنها المنازعة ، وهو منازعة النفس في التشبه بالغير فيما يراه له وهو يرغب فيه لنفسه ، والاجتهاد في الترقي إلى درجة أعلا من درجته .
وهذا الخلق محمود إذا كانت المنافسة في الفضائل والمراتب العالية ، وما يكسب مجدا وسؤددا ، فأما في غير ذلك من اتباع الشهوات ، والمباهاة باللذات ، والزينة ، والبزة “ 1 “ فمكروه جدا .
ومنها : الصبر عند الشدة .
وهذا الخلق مركب من : الوقار والشجاعة .
ومستحسن جدا : ما لم يكن الجزع نافعا ، ولا الحزن والقلق مجديا ، ولا الحيلة والاجتهاد دافعة ضرر تلك الحالة .
وما أقبح الجزع إذا لم يكن مفيدا “ 2 “ .
ومنها عظمة الهمة ، وهو : استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور ، وطلب المراتب السامية ، واستحقار ما يجود به الإنسان عند
.............................................
( 1 ) بكسر الباء وفتح الزاي المشددة : الهيئة .
( 2 ) الجزع المفيد : أن لا يقدم الإنسان على الشيء إلّا إذا تدبر عواقبه ، فإن رآه خيرا أقدم ، وإلّا أحجم .
فعل الخير ، والتودد ، والرقة ، وسلامة النية ، والحلم ، والحياء ، والنسك ، والعفة ، وطلب الرئاسة من الوجوه الجميلة .
وأما رذائلها : فالخبث ، والحيلة ، والخديعة ، والملق “ 1 “ “ 2 “ والمكر ، والحسد ، والتشرر ، والرياء .
وهذه النفس هي لجميع الناس .
إلّا أن منهم من تغلب عليه فضائلها ، فيستحسنها ويستعملها .
ومنهم من تغلب عليه رذائلها فيألفها ويستمر عليها .
ومنهم من يجتمع فيه بعض الفضائل وبعض الرذائل .
وهذه العادات قد تكون في كثير من الناس سجية وطبعا لا بتكلف .
فأما المطبوع على العادات الجميلة ، فمنها ما يكون لقوة نفسه الناطقة عنصريا .
وأما المطبوع على العادات المكروهة ، فلضعف نفسه الناطقة ، وسوء جوهره .
وأما الذي يجتمع فيه فضائل ورذائل ، فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال .
وقد يكتسب أكثر الناس هذه العادات ، وجميع الأخلاق جميلها وقبيحها إكتسابا .
وذلك يكون بحسب منشأ الإنسان ، وأخلاق من يحيط به ، ويشاهده ، ويقرب منه ، وبحسب رؤساء وقته ، ومن يشار إليه بالنباهة ، ويغبط على رتبته فإن الحدث “ 2 “ الناشئ يكتسب الأخلاق
.................................................
( 1 ) في المختار : “ ورجل ملق : يعطي بلسانه ما ليس في قلبه “ .
( 2 ) غير الناشئ .
وبالجملة : السرف في جميع الشهوات .
وهذا الخلق أبدا يهدم الحياء ، ويذهب ماء الوجه ، ويخرق حجاب الحشمة .
ومنها الشره ، وهو : الحرص على اكتساب الأموال وجمعها وطلبها من كل وجه ، وإن قبح التعسف في اكتسابها ، والكالبة عليها ، والاستكثار من القنية “ 1 “ وإدخار الأعراض “ 2 “ .
وهذا الخلق مكروه في جميع الناس ، إلّا من الملوك ، فإن كثرة الأموال والذخائر والأعراض تعين على الملك ، وتزين الملوك ، وتزيدهم هيبة في نفوس رعيتهم ، وأعوانهم ، وأعاديهم وأضدادهم .
ومنها التبذل ، وهو : اطراح الحشمة ، وترك التحفظ عن الهزل واللهو ، ومخالطة السفهاء ، وحضور مجالس السخف والهزل والفواحش ، والتفوه بالخنا ، وذكر الأعراض “ 3 “ والمزح ، والجلوس في الأسواق ، وعلى قوارع الطرق ، والتكسب بالمعاش الرديء ، والتواضع للسفلة .
وهذا الخلق قبيح بجميع الناس .
ومنها السفه ، وهو ضد الحلم ، وهو سرعة الغضب والطيش ، من يسير الأمور ، والمبادرة في البطش الإيقاع بالمؤذي ، والسرف في العقوبة ، وإظهار الجزع من أدنى ضرر ، والسب الفاحش .
وهذا الخلق : مستقبح من كل أحد ، إلّا أنه من الملوك والرؤساء أقبح .
............................................
( 1 ) أي يكثر الإنسان من اقتناء الأشياء للحرص .
( 2 ) الاعراض جمع : عرض بفتح العين والراء .
( 3 ) يعني بالسوء .
ومنها الخرق “ 1 “ وهو كثرة الكلام والتحرك من غير حاجة ، وشدة الضحك ، والمبادرة إلى الأمور من غير قف ، وسرعة الجواب .
وهذا الخلق مستقبح من كل أحد .
وهو بأهل العلم وذوي النباهة : أقبح .
ومن قبيل الخرق القحة ، وهو : قلة الاحتشام ، لمن يجب احتشامه ، والمجاهرة بالجوابات الفظة المستشنعة .
وهذا الخلق مكروه ، وخاصة بذوي الوقار .
ومنها العشق ، وهو إفراط الحب ، والسرف فيه .
وهذا الخلق مكروه على جميع الأحوال ، إلّا أن أقبحه وأشره :
ما كان مصروفا إلى طلب اللذة ، واتباع الشهوة الردية .
وقد يحمل صاحبه على الفجور وارتكاب الفواحش ، وكثرة التبذل ، وقلّة الحياء ، ويكسبه عادات ردية ، وهو بكل أحد قبيح ، إلّا أنه بالأحداث ، والمترفهين والمتنعمين : أقل قبحا .
ومنها القساوة ، وهو : خلق مركب من : البغض ، والشجاعة .
والقساوة هو : التهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى .
وهذا الخلق مكروه من كل أحد ، إلّا من الجندي وأصحاب السلاح والمتولين الحروب ، فإن ذلك غير مكروه منهم إذا كان في موضعه .
ومنها الغدر ، وهو : الرجوع عما يبذله الإنسان من نفسه ، ويضمن الوفاء به ، وهذا الخلق مستقبح ، وإن كان لصاحبه فيه مصلحة ومنفعة ، وهو بالملوك والرؤساء أقبح ، وبهم أضر ، فإن عرف
.....................................
( 1 ) بفتح الخاء والراء .
من الملك الغدر لم يسكن إليه أحد ، ولم يثق به ، وإذا لم يسكن إليه : فسد نظام ملكه .
ومنها : الخيانة ، وهو الاستبداد بما يؤمن الإنسان عليه من الأموال والأعراض والحرم “ 1 “ وتملك ما يستودع ، ومجاهدة مودعه .
ومن الخيانة أيضا طي الأخبار إذا بدت مصلحة لتأديتها ، وتحريف الرسائل إذا تحملها وصرفها عن وجهها .
وهذا الخلق - أعني الخيانة - مكروه من جميع الناس ، يثلم الجاه ، ويقطع وجوه المعايش .
ومنها إفشاء السر .
وهذا الخلق مركب من الخرق والخيانة ، فإنه ليس بوقور من لم يضبط لسانه ، ولم يتسع صدره لحفظ ما يستسر له .
والسر أحد الودائع ، وافشاؤه نقيصة على صاحبه فالمشي للسر :
خائن .
وهذا الخلق قبيح جدا ، وخاصة ممن يصحب السلاطين ويداخلهم .
ومن قبيل إفشاء السر : النميمة ، وهو أن يبلغ إنسانا “ 2 “ عن آخر قولا مكروها .
وهذا الخلق : قبيح جدا .
وإن لم يستسر أيضا بما يسمعه أو يبلغه ، فنقله إلى من يكرهه :
قبيح ، لأن في ذاك إيقاع وحشة بين المبلغ والمبلغ عنه .
وذلك غاية التشرر :
....................................
( 1 ) جمع حرمة .
( 2 ) مفعول لفاعل مقدر .
ومنها : الكبر ، وهو استعظام الإنسان بنفسه ، واستحسان ما فيه من الفضائل ، والاستهانة بالناس ، واستصغارهم ، والترفع على من يجب التواضع له .
وهذا الخلق : مكروه ضار لصاحبه ، لأن من أعجبته نفسه ، لم يستزد من اكتساب الأدب .
ومن لم يستزد بقي عليه نقصه .
فإن الإنسان ليس يخلو من النقص ، وقلما ينتهي إلى غاية الكمال .
وأيضا فإن هذا الفعل يبغضه إلى الناس ، ومن أبغضه الناس ساءت حاله .
ومنها العبوس : وهو التقطيب عند اللقاء ، وقلّة التبسم ، وإظهار الكراهية .
وهذا الخلق مركب من : الكبر ، وغلظ الطبع .
فإن قلّة البشاشة ، هي : الاستهانة بالناس ، والاستهانة بالناس تكون من الإعجاب والكبر .
وقلّة التبسم أيضا - وخاصة عند لقاء الإخوان - يكون من غلظ الطبع ، وهذا الخلق مستقبح وخاصة بالرؤساء والأفاضل .
ومنها : الكذب ، وهو : الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه .
وهذا الخلف : مكروه ، وما لم يكن لدفع مضرة ، لا يمكن أن تدفع إلّا به ، واجترار نفع لا غنى عنه ، ولا يوصل إليه إلّا به .
فإن الكذب عند ذلك ليس بستقبح ، وإنما بمستقبح الكذب إذا كان عبثا ، ولنفع يسير لا خطر له ، لا يفي بقباحة الكذب .
والقبح بالملوك والرؤساء أكثر ، لأن اليسير من النقص يشينهم .
ومنها : الخبث : وهو إضمار الشر للغير ، وإظهار الخير له ، واستعمال : الغيلة “ 1 “ ، والمكر ، والخديعة في المعاملات .
وهذا الخلق : مكروه من جميع الناس ، إلّا من الملوك والرؤساء ، فإنهم إليه مضطرون ، واستعمالهم إياه مع أضدادهم وأعدائهم لا يستقبح .
فأما أوليائهم وأصحابهم ، فإنه غير مستحسن .
ومن قبيل الخبث : الحقد ، وهو إضمار الشر للجاني إذا لم يتمكن من الانتقام منه ، فأخفى تلك الأحقاد إلى وقت إمكان الفرصة .
وهذا الخلق : من أخلاق الأشرار ، وهو مذموم جدا .
ومنها البخل : وهو منع المسترفد “ 2 “ مع القدرة على رفده .
وهذا الخلق : مكروه من جميع الناس ، إلّا أنه من النساء كمال “ 3 “ .
وأما سائر الناس ، فإن البخل : يشينهم ، وخاصة الملوك ، والعظماء ، فإن البخل يغض منهم أكثر مما يغض من الرعية والعوام ، ويقدح في ملكهم ، لأنه يقطع الأطماع منهم ، ويبغضهم إلى رعيتهم .
.........................................
( 1 ) الغيلة : بكسر الغين : الاغتيال ، والخداع .
( 2 ) المسترفد - بالفاء : من يطلب منك الرفد - بكسر الراء المشددة ، أي العطاء . واللّه تعالى أعلم .
( 3 ) لأن المرأة إذا أعطت كل من طلب خربت بيت زوجها ، مع أنها مقيدة برضا الزوج ، لأن ما تعطيه ملكه هو ، لا هي : فتصرفها - إذا تصرفت - في غير ملكها .
ومنها : الجبن ، وهو الجزع عند المخاوف ، والإحجام عما تحذر عاقبته ولا تؤمن مغبته “ 1 “ .
وهذا الخلق : مكروه من جميع الناس ، إلّا أنه بالملوك والجند وأصحاب الحروب : أضر .
ومنها الحسد ، وهو : التألم بما يراه الإنسان لغيره من الخير ، وما يجده فيه من الفضائل ، والاجتهاد في إعدام ذلك الغير ما هو له .
وهذا الخلق : مكروه ، وقبيح بكل أحد .
ومنها الجزع عند الشدة ، وهذا الخلق مركب من الخرق والجبن .
وهو يستقبح إذا لم يكن مجديا ولا مفيدا ، فأما إظهار الجزع لتعمل حيلة بذلك عند الوقوع في الشدة ، واستغاثة مغيث ، أو اجتلاب معين ، فيما تغنى فيه المعاونة ، فغير مكروه ، ولا يعد نقيصة .
ومنها صغر الهمة ، وهو : ضعف النفس عن طلب المراتب العالية ، وقصور الأمل عن بلوغ الغايات ، واستكثار اليسير من الفضائل ، واستعظام القليل من العطايا ، والاعتداد به . والرضى بأوساط الأمور وأصاغرها .
وهذا الخلق : قبيح بكل أحد ، وهو بالملوك أقبح ، بل ليس بمستحق الملك من صغرت همته .
ومنها : الجور ، وهو : الخروج عن الاعتدال في جميع الأمور ، والسرف والتقصير ، وأخذ الأموال من غير وجهها ، والمطالبة بما لا يجب من الحقوق ، وفعل الأشياء في غير مواضعها ولا أوقاتها ، ول
.........................................
( 1 ) المغبة : العاقبة .
على القدر الذي يجب ، وعلى الوجه الذي يجب .
ومن الأخلاق ما هو في بعض الناس فضيلة ، وفي بعضهم رذيلة .
فمنها : حب الكرامة ، وهو أن يسر الإنسان بالتعظيم والتبجيل ، والمقابلة بالمديح ، والثناء الجميل .
وهذا الخلق محمود في الأحداث والصبيان ، لأن محبة الكرامة تحثهم على اكتساب الفضائل .
وذلك أن الحدث والصبي ، إذا مدح على فضيلة ترى فيه كان ذلك داعيا له من الازدياد من الفضائل .
وأما الأفاضل من الناس ، فإن ذلك يعد منهم نقيصة ، لأن الإنسان إنما يمدح على الفضيلة إذا كانت مستغربة منه ، وإذا كان من أهل الفضل ، فليس ينبغي أن يسر ، بأن يستغرب ما يظهر منه من الفضائل .
وكذلك الإكرام والتبجيل إذا كان زائدا على استحقاقه ، فإنه يجري مجرى الملق ، والسرور بالملق غير محمود ، لأنه من جنس الخديعة .
ومنها : حب الزينة ، وهو التصنع بحسن البزة “ 1 “ ، والركوب ، والآلات ، وكثرة الخدم والحشم .
وهذا مستحسن من الملوك والعظماء ، والأحداث ، والظرفاء والمتنعمين ، والنساء .
وأما الرهبان “ 2 “ ، والشيوخ ، وأهل العلم ، وخاصة الخطباء
.........................................................
( 1 ) بكسر الباء وفتح الزاي المشددة : الهيئة .
( 2 ) رهبان الحق - الذين فرغوا أنفسهم لعبادة اللّه - ، لا رهبان السوء الذين جمعوا كل الرذائل والمستقبحات .
والواعظين ، ورؤساء الدين ، فإن الزينة والتصنع : مستبح منهم .
والمستحسن منهم : لبس الشعر ، والخشن ، والمشي ، والخفاء ، ولزوم الكنائس “ 1 “ ، وحبرهم ، وكراهية التنعم .
ومنها المجازاة على المدح ، وهو : مجازاة من يمدح الإنسان ، ويشكره في المجالس والمحافل .
وهذا الخلق مستحسن من الملوك والرؤساء ، لأن ذلك يدعو الناس إلى مدحهم ، ويكسب الممدوح ذكرا جميلا ، يبقى على الدهر .
ومن فضائل الملوك والرؤساء : بقاء ذكرهم الجميل ، فأما محبتهم سماع المدح مواجهة ، فذلك غير مستحب ، لأنه من جنس الملق ، وحب الملق مكروه ، لأنه من قبيل الخديعة .
وأما إيثارهم انتشار ذكرهم ومدحهم ، وتداول الناس له ، وبقاءه بعدهم ، فإن ذلك محمود منهم .
فمجازاة المادح مستحسنة من الملوك ، ومنعهم مستقبح وضار :
لأن ذلك يدعو إلى ذمهم .
وذمهم يبقى أيضا على الدهر ، فينشر لهم ذكرا قبيحا ، وذلك مكروه للملوك والرؤساء .
وأما أصاغر الناس ، فمحبتهم جزاء المادح محمودة ، فإنه إذا مدح الدنيء من الناس فإنما يخدعه ، فإذا أجازه اعتقد أنه استرق منه تلك الجائزة .
وكثير من الناس إذا مدحوا بما ليس فيهم : يبادرون إلى مجازاة
......................................................
( 1 ) ليفرغوا أنفسهم لما فرغوا أنفسهم له ، وذلك في الأزمنة التي كان الإسلام فيها مالكا للأمور .
المادح ، فيكونون قد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهم إذا صرفوا ذلك الشيء إلى الضعفاء ، وأهل المسكنة كان أجمل بهم وأليق .
ومنها : الزهد ، وهو : قلّة الرغبة في الأموال والأعراض “ 1 “ والإدخار ، والقنية ، وإيثار القناعة بما يقيم الرمق ، والاستخفاف بالدنيا ومحاسنها ولذاتها ، وقلّة الاكتراث بالمراتب العالية ، واستصغار الملوك وممالكهم ، وأرباب الأموال وأموالهم ، وهذا الخلق مستحسن جدا ، ولكن من العلماء والرهبان ورؤساء الدين والخطباء والواعظين ، ومن يرغب الناس في المعاد والبقاء بعد الموت .
وأما الملوك والعظماء ، فإن ذلك غير مستحسن منهم ، ولا لائق بهم ، لأن الملك إذا أظهر الزهد ، فقد صار ناقصا ، لأن ملكه لا يتم إلّا باحتشاد الأموال والأعراض “ 1 “ وإدخارها ، ليذب بها عن ملكه ، وصار معدودا من جملة النقص من الملوك الحائدين عن طريق السياسة .
فهذه الأقسام التي ذكرناها ، هي أخلاق جميع الناس .
أما المحمود منها ، المعدود فضائل ، فقلما تجمع كلها في إنسان واحد .
وأما المذموم منها ، المعدود نقائص ومعايب ، فقلما يوجد إنسان يخلو من جميعها ، حتى لا يكون فيه خلق مكروه وخاصة ، من لم يرض “ 3 “ نفسه ويؤدبها ، فإن لم يتعمل لضبط نفسه ، ويفتقد من عيوبه ، لم يخل من عيوب كثيرة ، وإن لم يحسن بها ، ولم يفطن لها ، فإن كان الأمر على ما ذكرنا ، كان الأجدر بالإنسان أن يتفقد أخلاقه ، ويتأمل عيوبه ، ويجتهد في إصلاحها ، وينفيها عن نفسه ،
.....................................................
( 1 ) جمع عرض ، بفتح العين والراء .
( 3 ) بفتح الياء وضم الراء .
ويتبع الأخلاق المحمودة ، ويحمل نفسه على اعتيادها والتخلق بها فإن الناس إنما يتفاضلون على الحقيقة بفضائلهم ، لا كما يعتقد الجهال والعامة : أنهم يتفاضلون بأحوالهم وأموالهم ، وكثرة الذخائر والأعراض ، فإن أكثر الناس إنما يتفاخرون بالذخائر والأموال ، والآلات ، ويعظمون أبدا الأغنياء وذوي الأحوال ، ولا يترتب بعضهم على بعض إلّا بكثرة الأموال ، وبالجاه المكتسب بالمال .
وليس كثرة الأموال ، مما تتفاضل بها أحوال الناس ، فأما نفوسهم ، فليس تكون أفضل من نفوس غيرهم ، بكثرة الأموال .
وذلك أن الفاجر السفيه الجاهل الشرير - وإن حوى أموالا عظيمة - فليس يكون أفضل من الضعيف الحكيم العالم الخبير ، وإن كان فقيرا .
بل إنما يكون بكثرة الأموال أغنى منه ، فأما في الفضل فليس يكون أحد أفضل من أحد إلّا بكثرة الفضائل فقط .
فإن اجتمع للإنسان ، مع أخلاقه الجميلة والعادات المستحسنة - الغنى والثروة ، فلعمري أنه يكون أحسن حالا من الفاضل المقتر ، لأنه من سعادات الإنسان أيضا - وخاصة إذا كان فاضلا ، عادلا ، عفيفا ، وأنه يصرف ماله في وجوهه ، وينفقه في حقوقه ، ويتفقد به من يجب تفقده ، ويسعف به أهل المسكنة ، ولا يقعد عما يجب فأرق صاحبه ( و ) سقطت منزلة صاحبه من نفوس الناس ، وساوى العامة والسوقة لأنه إذا رأس بالمال المعظم له هو ماله : لا نفسه ، فإذا زال ذلك المال ، لم يبق له شيء يعظم من أجله “ 1 “ .
.............................................
( 1 ) يقصد الشيخ ( رحمه اللّه ورضي عنه ) : إنه إذا عظم الناس صاحب مال أو سلطان ، فإنما يعظمون ماله أو سلطانه ، بدليل أنه إذا ذهب المال أو السلطان رجع كما كان ، غير معظم ولا محترم - ولعل في الجملة سقطا أو تحريفا في الطبعة الأولى - واللّه أعلم .
وليس كذلك الفاضل النفس ، المهذب الأخلاق ، فإن هذا رئاسته بفضائله ، وفضائله غير مفارقة له ، فهو رئيس ما دام “ 1 “ ومعظم لذاته لا لشيء من خارج ، ولأن الراغب في سياسة نفسه ، المؤثر تهذيب أخلاقه ، إذا نبه على خلق مذموم يجده في نفسه ، وأحب اجتنابه ، ربما صعب الانتقال عنه من أول وهلة ، وربما لم ينل التخلص منه ، ولم يطاوعه طبعه ، وربما استحسن أيضا خلقا محمودا لا يجده لنفسه ، وأثر التخلق به ، ولم تستجب له عادته ، ولم يصل إلى مراده ، فوجب أن نرسم للراغبين في السياسة المحمودة طرقا يتدربون بها ، ويتدرجون فيها ، حتى ينتهوا إلى مرادهم من اعتياد الأخلاق الجميلة ، والأنطباع بها ، وتجنب الأخلاق القبيحة والتفرغ منها فنذكر من أجل ذلك :
......................................
( 1 ) يعني : مدة دوامه .
في طريق الارتياض بالأخلاق والتعمل لاعتيادها
وقد ذكرنا فيما تقدم : أن سبب اختلاف الأخلاق في الناس ، هو اختلاف قوى النفس الثلاث فيهم : وهي : الشهوانيّة ، والغضبية والناطقة .
وإن ملاك الأخلاق ، هو تذليل الشهوانية منها ، والغضبية ، وتمييز عادات النفس الناطقة ، واستعمال المحمود من أفعالها .
وطريق التدريج لاستعمال العادات الجميلة ، والعدول عن العادات المستقحبة ، هو التدرج في تذليل هاتين القوتين .
أما النفس الشهوانية فالطريق إلى قمعها أن يتذكر الإنسان في وقت شهواته ، وعند شدة القدوم إلى لذاته ، أنه يريد تذليل نفسه الشهوانية ، فيعدل عما تاقت نفسه إليه من الشهوة الردية إلى ما هو مستحسن ، من جنس تلك الشهوة ، متفق على ارتضائه ، فيقتصر عليه .
فإن بذلك الفعل تنكسر شهوته ثم يعللها ويعدها ، فإن سكنت ، وإلّا عاود الفعل من الوجه المستحسن ، فإنه إذا فعل ذلك وتكرر
فعله ، كفت النفس ، وإن استمر على هذه الحالة ألفت النفس هذه العادة ، وأنست بها ، واستوحشت مما سواها .
وينبغي - لمن أراد قمع نفسه الشهوانية - أن يكثر من مجالسة الزهاد والرهبان “ 1 “ والنساك وأهل الورع والواعظين ، ويكرم مجالسة الرؤساء وأهل العلم ، فإن الرؤساء - وخاصة رؤساء الدين - يعظمون من كان معروفا بالعفة ويستزرون من كان فاجرا متهتكا .
وملازمته لهذه المجالس تضطره إلى التصون ، والتعفف ، والتجمل لأولئك لئلا يستزروه ويغضوا منه ، وليلق برتبة من يعظم في المحافل .
وينبغي له أيضا أن يديم النظر في كتب الأخلاق والسياسة ، وأخبار الزهاد والرهبان ، والنساك ، وأهل الورع ، ويجب عليه أن يتجنب مجالس الخلعاء والسفهاء ، والمتهتكين ، ومن يكثر الهزل واللعب .
وأكثر ما يجب عليه : تجنب السكر ، فإن السكر من الشراب يثير نفسه الشهوانية ، ويقويها ، ويحملها على التهتك وارتكاب الفواحش ، والمجاهرة بها ، وبذلك إن الإنسان إنما يرتدع عن القبائح بالعقل والتمييز ؛ وإذا سكر عدم ذلك الذي كان يردعه عن الفعل القبيح ، فلا يبالي أن يرتكب كل ما كان يتجنبه في صحوه .
فأولى الأسباب لمن طلب العفة هجر الشراب بالجملة ، وإن لم
.................................................................
( 1 ) يقصد الشيخ ( رحمه اللّه ) بذكره الرهبان : الملتزمين منهم بحدود التوراة والإنجيل الّذين نزلا من عند اللّه - ولعل في قول اللّه تبارك وتعالىإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِإشارة إلى ذلك ، فإن قوله - كثيرا - يفيد أن فيهم أيضا أناسا لا يفعلون ذلك ، لأنه لم يقل - إن الأحبار والرهبان - بل عبر جلّ وعلا ب “ كثيرا “ وهذا النوع غير موجود الآن . واللّه أعلم .
يمكنه ، فليقتصر على اليسير منه “ 1 “ ويكون في الخلوات ، أو مع من لا يحتشمه ، ويتجنب مجالس المجاهرين بالشراب والسكر ، والخلاعة ، ولا يظن أنه إن حضر تلك المجالس ، واقتصر على اليسير من الشراب : لم يستضر به ، فإن هذا غلط “ 2 “ .
وذلك أن من حضر مجالس الشراب ، ليس تنقاد له نفسه إلى القناعة بيسير الشراب ، بل إن حضر مجالس الشراب ، وكان في غاية العفة ، تاركا للشراب ، متمسكا بالورع ، حملته شهوته على التشبه بأهل المجلس ، وتاقت نفسه إلى الفعل لما هو أكثر من ذلك ، وتهتك بعد الستر والصيانة .
فسيمة أحوال من طلب العفة : عدم حضور مجالس الشراب ومخالطة أهلها والاستكثار من معاشرتهم .
وينبغي : لمن أراد قمع نفسه الشهوانية أن يقل من استماع السماع ، وخاصة النسوان والشابات منهن ، المتصنعات ، فإن للسماع قوة عظيمة في إثارة الشهوة ، فإذا انضاف إلى ذلك : أن تكون المسمعة مشتهاة متعلمة “ 3 “ لاستمالة العيون إليها : اجتمع على السماع حوادث كثيرة ، فربما لم يستطع دفع جميعها عن نفسه ، والأولى لمن هم بقهر الشهوة : أن يتجنب السماع ، وإن لم يكن منه بد ، ولم تستجب نفسه إلى هجره بالكلية ، فليقتصر على استماعه من الرجال ، ومن لا مطمع للشهوة فيه ، والإقلال منه خير وأصون للمتعفف .
فأما الطعام ، فينبغي أن يعلم أن غايته هو : الشبع ، لدفع ألم الجوع ، فخير الطعام وردية جميعا مشبعان ، فليس للمبالغة في تجويد الطعام كبير حظ .
.......................................................
( 1 ) استدراجا لنفسه ، حتى تنتهي بالمرة ، وفي كلامه بعد إشارة إلى ذلك أنظر ص 55 .
( 2 ) أي إن الخمر ولو قليلة فيها الخطر ولا بد .
( 3 ) طرق الضرب والإيقاع .
والأولى هو التوسط في أنواع المآكل ، وأن يكون في الجنس الذي نشأ عليه الإنسان ، واعتاده وألفه ، على أن شهوة الطعام والنهم فيه ، وإن كان من الأخلاق الرديئة فهو أسهلها وأهونها ، وليس يكسب صاحبها من العار ما يكسبه محبة الشراب والمباضعة ، ومعاشرة النسوان ومصاحبة الأحداث ، المتهيئين للفواحش ، فإن ذلك في غاية القبح ، وشهوة المآكل أقل قبحا منه ، وأخف على فاعله ، وهو مع ذلك قبيح ، والاستهتار به وكثرة النهم والشره إليه مكروه ، وطريق التدرج إلى الاقتصاد في الطعام ، هو : أن يبادر ذو الشهوة إلى أي شيء وجده من المأكل ، فإن كان المشتهي الذي تاقت نفسه إليه حلوا فإلى أي حلاوة وجدها ، وإن كان غير ذلك ، فإلى ما يشابهه في الطعم فإنه إذا تناول من الطعام ما يشبهه ذلك المشتهي في الطعم ، فإن شهوته تسكن ، ونفسه تكف .
وينبغي لمن أحب العفة أن يكون أبدا متيقظا ، ذاكرا لما يلحق الفاجر والنهم والشرة والمتهتك من القباحة والعار ، ويجعل ذلك ديدنه وشعاره ، فإن نفسه تبغض الشهوات ، وتشتاق إلى التعفف والقناعة ، وتطرب عند العدول عن الفواحش ، مع القدرة عليها ، وترتاح لما ينشر عنها ، ويبلغها عن الناس من الثناء الجميل على صاحبها .
فهذا الذي ذكرنا هو : طريق رياضة النفس الشهوانية ، وتذليلها وقمعها ، وهو طريق الارتياض بالمعادات المحمودة المرضية ، فيما يتعلق بالشهوات واللذات .
فأما النفس الغضبية فإن الطريق في قمعها وتذليلها هو : أن يصرف الإنسان همته إلى أن يتفقد السفهاء الذين يسرع إليهم الغضب في أوقات طيشهم وحدتهم وتسفههم على خصومهم ، وعقوبتهم لخدمهم وعبيدهم ، فإنه يشاهد منهم منظرا شنيعا ، يأنف منه الخاص والعام ، فإن تذكر ما شاهد في أوقات غضبه ، وعند جنابات خدمه
وعبيده ، وعند ذنوب إخوانه وأودائه ، وفي جميع محاوراته ومعاملاته ، فإنه إذا تذكر ما كان استقبحه من السفهاء : انكسرت بذلك سورة “ 1 “ غضبه ، وأحجم عماهم بالإقدام عليه من السب والوثوب ، فإن لم يكف بالكلية أقصر ، ولو أنه غاية الفحش .
وينبغي لمن أراد أن يقهر نفسه الغضبية ، أن يذكر أوقات غضبه على من يؤذيه ، أو يجني عليه ، أنه لو كان هو الجاني : ما الذي كان يستحق على جنايته ؟
فإنه بهذا الفعل يعتقد أن درك تلك الجناية ، أو أرش “ 2 “ ذلك الأذى : يسير جدا .
فإذا اعتقد ذلك ، كانت مقابلته للجاني ، والمؤذي ، بحسب اعتقاده ، فلا يسرف في الانتقام ، ولا يفحش في الغضب .
فإذا فعل ذلك دائما ، وجعله ديدنا ، وتفقد معائب السفهاء ، ومن يسرع إليه الغضب ، لم يبعد أن تنكسر نفسه الغضبية وتناقد ، فإذا استمر على ذلك مدة : صار خلقا وعادة .
وينبغي لمن يرغب في تذليل نفسه الغضبية أن يتجنب حمل السلاح ، وحضور مواضع الحروب ، ومقامات الفتن ، ومجالسة الأشرار ، ومعاشرة السفهاء ، ومخالطة الشرط ، فإن هذه المواضع تكسب القلب قساوة وغلظة ، وتعدمه الرأفة والرحمة ، فتقسوا لذلك نفسه الغضبية .
فإذا كان يريد تذليلها وتسكينها ، وجب أن يجعل مجالسته لأهل العلم ، وذوي الوقار ، والشيوخ ، والرؤساء ، والأفاضل ، ومن يقل غضبه ، ويكثر حلمه ووقاره .
........................................................
( 1 ) بفتح السين المهملة وسكون الواو : شدة الغضب .
( 2 ) دية الجراحات .
وينبغي له أيضا : أن يتجنب المسكر من الشراب ، فإن السكر يهيج النفس الغضبية أكثر مما يهيج الشهوانية ، وبذلك ربما يسرع إلى العربدة ، والوثوب على جلسائه ، والاستخفاف بهم وسبهم ، وذكر أعراضهم ، بعد أن كان يتحنن عليهم ، ويتودد إليهم .
ولا يكون بين الوقتين إلّا بمقدار ما يستحكم عليه السكر ، فالسكر مثير للقوة الغضبية ، ومقولها ، فمن أراد أن تسكن نفسه الغضبية ، فلا بد أن يتجنب المسكر .
وإن تمكن من هجران الشراب البتة ، فهو أصلح لقهر النفس الغضبية والشهوانية - جميعا .
وينبغي لمن أراد تذليل قوته الغضبية والشهوانية أن يستعمل في جميع ما يفعله الفكر ، ولا يقدم على الشيء إلّا بعد أن يتروي فيه ، ويجعل الفكرة واتباع الرأي ديدنه وعادته ، فإن الرأي وجودة الفكر ، يقبحان له السفه وسرعة الغصب ، والانهماك في الشهوات ، واتباع اللذات ، فإذا استقبح ذلك أحجم عنه ، وعدل إلى ما يقتضيه الرأي والفكر ، وإن لم يرتدع بالكلية ، فلا بد أن يؤثر ذلك فيه ، فيقتصر عما يريد الشروع فيه .
وملاك الأمر في “ تهذيب الأخلاق “ وضبط النفس الشهوانية والنفس الغصبية هي تقوية النفس الناطقة فإن بهذه النفس تكون جميع السياسات .
وهذه النفس إذا قويت متمكنة من صاحبها أمكنة : إن يسوس بها قوتيه الباقيتين ، ويكف نفسه عن جميع القبائح ، ويتبع أبدا مكارم الأخلاق ، وإذا لم تكن هذه النفس قوية في صاحبها ، وكانت مقهورة خافتة ، فأول ما ينبغي أن يعتمده في سياسة أخلاقه أن يروض هذه ويقويها ، وتقوية هذه النفس إنما يكون بالعلوم العقلية ، فإنه إذا نظر في العلوم العقلية ودقق النظر فيها ودرس كتب الأخلاق والسياسة ،
وداوم عليها تيقظت نفسه ، وتنبهت ، وانتعشت من خمولها ، وأحست بفضائلها ، وأنفت من رذائلها ، وذلك أن هذه إنما تضعف وتحفت إذا عدمت الفضائل والمناقب ، واستولت عليها الرذائل ، فإذا اقتنت الفضائل ، واكتسبت الآداب ، تيقظت من غشيتها ، وثارت من سكرتها ، وقويت بعد ضعفها .
وفضائل هذه النفس هي : العلوم العقلية ، وخاصة ما دق منها ، فإذا أرتاض الإنسان بالعلوم العقلية شرفت نفسه ، وعظمت همته ، وقويت فكرته ، وتمكن من نفسه ، وتملك أخلاقه ، وقدر على إصلاحها ، وإنفاد له طبعه ، وسهل عليه تهذيبه ، وأذعنت له القوة الغضبية والشهوانية ، وهان عليه قمعها وتذليلها .
فأول ما ينبغي أن يبتديء به من يحب سياسة أخلاقه : النظر في كتب الأخلاق ، والسياسة ، ثم الإرتباض بعلوم الحقائق ، فإن أشرف ما تكون النفس إذا أدركت حقائق الأمور ، وأشرفت على هيئات الموجودات .
وإذا شرفت نفس الإنسان وعلت همته : ترقى إلى مراتب أهل الفضل .
ومما يصلح النفس الناطقة ويقويها أيضا : مجالسة أهل العلم ، ومخالطتهم ، والاقتداء بأخلاقهم وعاداتهم ، وخاصة أصحاب علوم الحقائق ، والمتيقظين منهم ، المستعملين في جميع أمورهم ما تقتضيه علومهم ، وتوحيه عقولهم .
فأما تمييز عادات النفس الناطقة ، واستعمال ما حسن منها واطراح ما قبح ، فذلك إنما يمكن ويسهل أيضا إذا راض نفسه الناطقة فإن النفس الناطقة إذا ارتاضت بالعلوم الحقيقية ، وتيقظت ، وشرفت :
أنفت من العادات المستقبحة وتنزهت عن التدنس بها ، فيهون حينئذ على صاحبها تجنب ما يكره من عاداتها ، ويتغلب عليه استحسان
الأخلاق الجميلة ، والتخلق بها ، وقد تبين من جميع ما ذكرنا : إن طريق الارتياض وبالأخلاق المحمودة : المرضي منها ، والتصنع لاعتيادها ، واتباع المحمود المرضي منها ، واجتناب المذموم والمستقبح
.
وتذليل قوة الشهوة الغضبية ، وضبطها وقهرها هو : إصلاح النفس الناطقة وتقويتها ، وتحليتها بالفضائل والآداب والمحاسن ، فإن ذلك هو آلة السياسة ، ومركب الرياضة ، ومن لم يتمكن من اكتساب العلوم العقلية والإمعان فيها ، أو تعذر عليه ذلك ، فليبذل جهده في تدقيق الفكر ، ومجاهدة النفس ، وتمييز ما بين عاداته القبيحة والجميلة ، وينظر أيها اجدى عليه ، وأيها أنفع له ، وأيها أحمد عاقبة وأبقى على الأيام ، فإنه إذا صدق نفسه ، وجد شهواته ولذاته إنما هي ملذة وقت استعمالها فقط ، فأما بعد مفارقتها ، فليست باقية عليه ، ولا نافعة له ويجد عارها وشينها باقيا على الدهر ، متداولا بين الناس يعاب به ويزري عليه بقبحه .
وكذلك شدة الغضب ، والتسرع إلى الانتقام والسب ، والفحش ، فإنه إذا انجلت غمرته “ 1 “ ، وسكنت سورته “ 2 “ ، وتأمل أمر ما فعله : وجده قبيحا ، ولم يجده مجديا ولا مفيدا .
وقد صار ما فعله عند الغضب نقيصة يوسم “ 3 “ بها ، ومعرة يسب بها .
وربما ارتكب في الغضب جنايات ، يعاقب عليها ، ويؤدب من أجلها .
..........................................................
( 1 ) الغمرة : بفتح الغين المعجمة : وسكون الميم : الشدة .
( 2 ) شدة الغضب .
( 3 ) الوسم : العلامة .
وكذلك العادات المكروهة من عادات النفس الناطقة أيضا يجدها غير نافعة ولا مجدية .
وذلك إن : الحسد ، والحقد ، والخبث ، وأمثال هذه : لا ينتفع بها صاحبها ، وإن انتفع بالخبث والشر ، فشر منفعة .
ومع ذلك هو : ضار له ، فإن من تشرر : قصده الناس واستعدوا لأذيته وتصدوا للاضرار به ، وتوقوه ، واحتزروا منه ، وكرهوا نفعه ، وقصروا وجوه الخير عنه ، واجتهدوا في ذلك .
وما أسوأ حال من هذه صفته ، فمستعمل الشر والخبث سييء الحال ، يضره شره أكثر مما ينفعه .
فإذا حاسب الإنسان نفسه ، وأجال فكره ، وتمييزه : علم أن الضرر في مساوىء الأخلاق أكثر من النفع ، وأن الذي يعده منها نفعا ليس هو بنفع على الحقيقة ، وهو يسير جدا غير باق ، ولا مستمر .
فإن هذا اليسير الذي يعده نفعا لا يفي بالضرر الكثير ، والعار الدائم المتصل .
ويعلم أيضا أن : الشر والخبيث يجلبان عليه الشر ، ويوحشان منه الناس .
فإذا أدام ذلك ، وأكثر منه ، قوى في نفسه اتباع محاسن الأخلاق ، ومسهل عليه اطراح مساوئها ومقابحها ، وغلب عليه الخير والسداد ، وفرغ من العيب والعار .
فإذا فعل ذلك دائما : لم يلبث أن يصلح أخلاقه ، ويحسن طريقته ، ويهذب شمائله ، ويلحق برتبة أهل الفضل ، ويتميز عن أهل الدنس والنقص .
وينبغي لمن أراد سياسة أخلاقه . أن يجعل غرضه من كل
فضيلة : غايتها ونهايتها ، ولا يقنع منها بما دون الغاية ، ولا يرضى إلّا بأعلى درجة ، فإنه إذا جعل ذلك غرضه ، كان حريا أن يتوسط في الفضائل ، ويبلغ منها رتبة مرضية ؛ إن فاتته الدرجة العالية .
فأما إن قنع بالتوسط : لم يأمن أن يقصر عن بلوغه ، فيبقى في أدون المراتب ، ويفوته المطلوب ، فلا يطمع أبدا في التمام .
فهذا الذي ذكرنا ، هو طريق الارتياض بمكارم الأخلاق ، ومنهج التدرج في محمود العادات .
فإذا أخذ الإنسان نفسه به ، وأكثر مراعاته ، وتعهده ، صار له أمر الفضائل ديدنا ، والمحاسن له خلقا وطبعا .
وقد بقي علينا أن نذكر :
في أوصاف الانسان التام الجامع لمحاسن الأخلاق وطريقته التي بها يصل إلى التمام
فنقول : الإنسان التام ، هو الذي لم تفته فضيلة ، ولم تشته رذيلة ، وهذا الحد قلما ينتهي إليه إنسان .
وإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد ، كان بالملائكة أشبه منه بالناس .
فإن الإنسان مضروب بأنواع النقص ، مستول عليه وعلى طبعه ضروب الشر ، فقلما يخلص من جميعها حتى تسلم نفسه من كل عيب ومنقصة ، ويحيط بكل فضيلة ومنقبة .
إلّا أن التمام - وإن كان عزيزا بعيد التناول - فإنه ممكن ، وهو غاية ما ينتهي إليه الإنسان ، ونهاية ما هو منته له .
وإذا صدقت عزيمة الإنسان وأعطى الاجتهاد حقه كان قمينا “ 1 “ بأن ينتهي إلى غايته التي هي منتهى له ، ويصل إلى بغيته التي تسموا نفسه إليها .
فأما تفصيل أوصاف الإنسان التام ، فهو : أن يكون متفقدا لجميع أخلاقه ، متيقظا لجميع معايبه ، متحرزا من دخول كل نقص
...............................................
( 1 ) يعني : جديرا .
عليه ، مستعملا لكل فضيلة ، مجتهدا في بلوغ الغاية ، عاشقا لصورة الكمال ، ملتذا بمحاسن الأخلاق ، متيقظا لمذموم العادات ، معتنيا بتهذيب نفسه ، غير مستكثر ما يقتنيه من الفضائل ، مستعظما لليسير من الرذائل ، مستصغرا للرتبة العليا ، مستحقرا للغاية القصوى ، يرى التمام دون محله ، والكمال أقل أوصافه .
فأما الطريقة التي توصله إلى التمام ، وتحفظ عليه الكمال فهي : أن يصرف عنايته إلى النظر في العلوم الحقيقية ، ويجعل غرضه الإحاطة بماهيات الأمور الموجودة ، وكشف عللها وأسبابها ، وتفقد غاياتها ، ولا يقف عند غاية من علمه إلّا ورنا “ 1 “ بطرفه إلى ما فوق تلك الغاية ، ويجعل شعاره - ليله ونهاره - قراءة كتب الأخلاق ، وتصفح كتب السير ، والسياسات ، وأخذ نفسه باستعمال ما أمر أهل الفضل باستعماله ، وأشار المتقدمون من الحكماء باعتياده ، وينشد أيضا طرفا من أدب البيان والبلاغة ، ويتحلى بشيء من الفصاحة ، والخطابة ، ويغشى أبدا مجالس أهل العلم والحكمة ، ويعاشر دائما أهل الوقار والعفة .
هذا إن كان رعية وسوقه .
فإن كان ملكا ورئيسا ، فينبغي أن يجعل جلساءه ومنادميه وغاشته “ 2 “ والمطيفين به : كل من كان معروفا بالخير والسداد ، موصوفا بالأدب والوقار ، مخصصا بالعلم والحكمة ، محققا بالفهم والفطنة ، ويقرب مجالس أهل العلم ، وينشطهم ، ويكثر مجالستهم والأنس بهم ، ويجعل تفرجه وتفكهه مذاكرتهم في العلم وفنونه ، وسياسة الملك ورسومه ، وأخبار الحكماء وأخلاقهم ، وسير الملوك الأخيار وعاداتهم .
...........................................................
( 1 ) رنا : أدام النظر .
( 2 ) بفتح الشين المعجمة والتاء الخفيفة : أي من يغشاه .
وينبغي للإنسان التام ، ولمن طلب طريقته التي بها يصل إلى التمام : أن يجعل لشهواته ولذاته قانونا راتبا ، يقصد فيه الاعتدال ، ويجتنب السرف والإفراط ، ويعتمد من الشهوات واللذات المعتمدة له : ما كان من الوجوه المرتضاة المستحسنة ، ويأخذ نفسه بذلك ، ويحض عنها الطبع ، ويهجر أصحاب اللذات ومعاشرتهم ، وينقبض عن الخلفاء “ 1 “ ومخالطتهم ، ويشعر نفسه أن الشهوة عدو مكاشح “ 2 “ ، وخصم مكافح ، يريد أبدا ضرورة وأذيته ، ويعتمد شينه وفضيحته ، فيناصب شهوته بالعداوة ، ويكاشفها بالمعاندة ، ويقمع أبدا سورتها ، ويكسر دائما حدتها ، ويقهر سطوتها ، ويذلل - على التدريج - عزتها ، ويسكن - على الترتيب - فورتها .
فإنه إذا فعل ذلك : كان خليقا أن يملك نفسه ، وتنقاد له شهوته ، وتنطبع بالعفة ، وتألف حسن السيرة .
ومتى أرخى لشهوته عنانها ، وسمح لها في مرادها ، وأهمل سياستها ومراعاتها ، واستطالت وشمخت ، ولم تلبث أن توهن صاحبها ، وتقوده ، وتحمله على ما يسوؤه ، ويعره “ 3 “ فيصير بذلك بعيدا من التمام ، غير طامع في الكمال .
وينبغي لمن يطلب التمام ، أن يعلم أنه لا سبيل له إلى بلوغ غرضه ما دامت اللذة عنده مستحسنة ، والشهوة مستحبة ، وهذه الحال صعبة جدا ، متعسرة على طالبها ، بعيدة المأخذ ، وهي على الملوك والرؤساء أصعب وأبعد ، لأن الملوك والرؤساء أقدر على اللذات ،
............................................
( 1 ) يقصد خلفاء السوء ، أو الخلفاء والملوك الذين كانوا في عهده ، فإن أيديهم كانت أقرب إلى السيف منها إلى النعمة وقد أصابه منهم أذى كثير واللّه تعالى أعلم .
( 2 ) مكاشح : لاصق بكشحه ، والكشح : ما بين الخاصرة إلى الضلع . وهو تعبير عن شدة القرب .
( 3 ) أي يلصق به الفضيحة .
وأشد تمكنا ، والشهوات واللذات لديهم معروضة ، ولهم سجية وعادة ، فمفارقتها عليهم متعذرة ، وإعراضهم عنها كالشئ الممتنع ، خاصة لمن قد نشأ على الانهماك فيها ، والتوفر عليها .
إلّا أن الملوك - وإن كانوا أقدر على اللذات وأكثر اعتيادا لها فهم أعظم همما ، وأعز نفوسا ، والمحصل منهم إذا سمت نفسه إلى التمام الإنساني ، واشتاقت إلى الرئاسة الحقيقية ، علم أن الملك أحق أن يكون أتم أهل زمانه ، وأفضل أعوانه ورعيته ، فيهون عليه مفارقة الشهوات ، وهجر اللذات الدنية .
وينبغي لمن رغب في سياسة أخلاقه ، وسلك طريق الاعتدال في الشهوات ، أن يجعل ( لها ) قانونا يقتصر عليه في المآكل والمشارب ، مقرونا بالكرم ، وهو أن لا يستبد بالمأكل والمشرب وحده ، بل يقصد أن يشرك في ما له من ذلك إخوانه وأوداءه ، إن كان رعبة وسوقه .
وإن كان ملكا رئيسا فيجمع عليه حاشيته وندماءه ، ويعم به أصحابه وأعوانه ، ويتفقد بفضلاته “ 1 “ أهل الفقر والمسكنة ، وخاصة من سبقت له معرفة به ، أو تقدمت له خدمة ، فيصرف إلى حاجاتهم من عنايته ، فإن اعتداد هؤلاء بما يصل إليهم من بره ، أكثر من اعتداد حاشيته وأصحابه ، وليظهر لمن يجتمع على مائدته ، وعلى طعامه وشرابه ، من إخوانه وأصداقائه ، ورعيته وندمائه - وإن كان ملكا - أن جمعه لهم للأنس بهم ، والسرور بمعاشرتهم ، لا ليكرمهم بطعامه وشرابه ، ولا أن لذلك قدرا يعتد به .
ويحترز - كل الاحتراز - من أن يبدو منه امتنان بالطعام والشراب ، أو تبجح به ، فإن ذلك يزري بفاعله ، ويغض منه ، ويوحش من يغشاه ، ويقطعهم عنه .
........................................
( 1 ) ما يفضل منه .
وقد يستحسن من الإنسان أيضا - إذا كان مقلا - أن يواسي بطعامه إخوانه ، وإن كان محتاجا إليه ، ويستحسن منه أيضا أن يواسي به الفقراء والضعفاء ، وقد يستحسن منه أيضا أكثر من ذلك ، بأن يؤثر الإنسان بطعامه وشرابه غيره ، وإن كان شديد الاضطرار إليه ، وكان لا يقدر على غيره .
وينبغي أيضا لمن طلب السياسة التامة : أن يستهين بالمال ويحتقره وينظر إليه بالعين التي يستحقها .
فإن المال : إنما يراد لغيره ، وليس هو مطلوبا لذاته ، فإنه في نفسه غير نافع ، وإنما الانتفاع بالأغراض التي تنال به .
فالمال آلة تنال بها الأغراض ، فلا يجب أن يعتقد أن اقتناءه وادخاره مفيد ، فإذا أدخر وحرص عليه : لم ينل صاحبه شيئا من الأغراض التي هو بالحقيقة محتاج إليها .
فالمال هو مطلوب لغيره ، فينبغي للسديد الرأي ، العالي الهمة ، أن يزنه بوزنه ، فيكسبه من وجهه ، ويفرقه في وجهه ، ويكون مع ذلك ، غير متوان في اكتسابه ، ولا مقدم في طلبه ، لأن عدم المال بضطره إلى التواضع لمن هو دونه ، إذا وجد عنده حاجته ، ووجود المال يغنيه عن : من هو فوقه ، وإن دنت منزلته .
ويكون - أيضا - غير مدخره ولا متمسك به ، بل يصرفه في حاجاته ، وينفقه في مهماته ، ويقصد الاعتدال في تفريقه ، ويحذر من السرف والتبذير في تخريجه ، ولا يمنع حقا يجب عليه ، ولا يصرفه في شيء لا يحب ولا يشكر عليه .
وإذا فرغ من حاجته ، واستكفى من نفقاته ، وسد خلله “ 1 “ عاد إلى النظر في أمره ، فإن كان بقي من ماله بقية فاضلة عن مهم
..........................................
( 1 ) الخلل : بضم الخاء ، جمع خلة بفتح الخاء ، وهي : الحاجة .
أغراضه : أخرج منها قسطا ، فجعله عنده يستظهر به لشدة ، ويعده لنائبة ، ثم عمد إلى الباقي وفرقه في ذوي الحاجة ، من أهله ، وأقاربه ، وإخوانه ، وأهل مودته ، وجعل فيه قسطا للضعفاء والمساكين ، وأهل الفاقة المستورين ، وجعل اهتمامه بإفضاله وبره :
أكثر من اهتمامه بضروراته ، فإن الضرورات تقوده كرها إليها ، وأكثر النوافل متى لم يهم بها ويشعر نفسه ألزامها : لم يسهل عليه فعلها ، لأن ضعف النفس وسوء الظن يصر فإنه عنها ، وإن لم يكن له جاذب من نفسه ، وداع قوى من همته ، لم يقدم عليها ، وغلب عليه التواني ، فإذا توانى عن البر والفضل : كان شحيحا دنيا ، وليس بتام .
بل ليس بالحقيقة إنسانا من لم يكن له بر يعرف ، ولم تنتشر له أفعال توصف .
هذا إن كان من أوساط الناس .
فأما الملوك والرؤساء ، فإنهم أحق بهذه السياسة ، ويجب أن يكونوا بذلك أشد عناية ، فيجبو الأموال من حقها وواجبها ، ويصرفوا منها في نفقاتهم ومؤناتهم ، وأرزاق جندهم ، وأصحابهم تدر الكفاية ، من غير سرف ولا تقتير ، ويعدوا منها شطرا لخوف عاقبة ، ويصرفوا الباقي في طريق الكرم والجود ، ووجوه الخير والبر ، فيعطوا أهل العلم على طبقاتهم ، ويجعلوا لهم رواتب من خواص أموالهم ، ويدفعوا لمن هو مثابر على العلم والأدب ، ويبرو الضعفاء والمساكين ، ويتفقدوا الغرباء ، ويهتموا بالزهاد وأهل النسك ، ويخصوهم بقسط من إفضالهم وإنعامهم ، ويعتنوا بالصغير والكبير ، وينفقوا في مصالحهم شطرا من أموالهم ، فإن الملوك أولى بالكرم من الرعية ، وأحق بالجود من العامة .
وقد يستحسن أيضا من الملقين “ 1 “ والمقترين : المواساة بالمال
................................................
( 1 ) بفتح الميم وكسر اللام والقاف .
والإيثار به ، وإن كانوا محتاجين إليه ، وكلما كانت حاجتهم أشد ، كان ذلك الفعل حسنا ، وهذه الحال مستحسنة ، إذا رأى الرجل أخا من إخوانه ، أو صديقا يختص به ، وقد دعته الحاجة إلى ما لا يقدر عليه لإصلاح شيء من شأنه ، أو لدفع محنة نزلت به ، وكان هو قادرا على ذلك القدر من المال ، فيبتدي بإسعافه : عفوا من غير مسألة .
وإن فعل هذا الفعل مع الغريب الذي لا يعرفه ، ولم تسبق له حرمة ولا مودة ، كان جميلا مستحسنا .
وينبغي لمحب الكمال : أن يشعر نفسه أن الغضبان بمنزلة البهائم والسباع : يفعل ما يفعله من غير علم ، ولا روية .
فإذا جرى بينه وبين غيره محاورة : أدت إلى أن يغضب خصمه ويتسفه عليه : اعتقد فيه أنه في تلك الحالة بمنزلة البهائم والسباع ، فيمسك عن مقابلته ، ويحجم عن الاقتصاص منه ، ألا يعلم أن الكلب لو نبح عليه ، لم يكن يستحسن مقابلته على نبحه ؟ وكذلك البهيمة لو رمحته ، لم يستحسن عقوبتها ، ؟
لأنها غير عالمة بما تصنعه ، إلّا أن يكون جاهلا ، فإن من السفهاء من يغضب على البهيمة إذا رمحته ، ويوجعها ضربا إذا آذنه ، وربما عثر السفيه فشتم موضع عثرته ، ورفسه برجله .
فأما الحليم الوقور ، فلا يستحسن شيئا من ذلك ، وإذا استشعر في خصمه أنه بمنزلة البهائم : صار هذا الاستشعار منه طريقا إلى ضبط النفس الغضبية ، وزمها “ 1 “ وأن أذاه مؤذ بغير سفه . فيؤدي ذلك الأذى إلى حال يغضبه ، أنف أيضا من الغضب ، مع استشعاره أن الغضبان والبهيمة سواء ، فيعدل حينئذ إلى مقابلة مؤذية بما يقتضيه الرأي ، من حيث لا يظهر فيه غضب ولا سفه .
...........................................
( 1 ) إلزم : بالزاي ، هو شد الزمام ( المقود ) مأخوذ من زم البعير : إذا خطمه .
وينبغي لمحب الكمال أيضا أن يعود نفسه محبة الناس اجمع ، والتودد إليهم ، والتحنن عليهم ، والرأفة والرحمة بهم ، فإن الناس قبيل واحد ، متناسبون ، تجمعهم الإنسانية ، وحلية القوة الإلهية هي في جميعهم ، وفي كل واحد منهم ، وهي النفس العاقلة ، وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا ، وهي أشرف جزئي الإنسان :
الذين هما :
النفس والجسد ، والإنسان بالحقيقة هو “ 1 “ : النفس العاقلة ، وهي جوهر واحد في جميع الناس ، وكلهم بالحقيقة شيء واحد ، والأشخاص كثيرون .
وإذا كانت نفوسهم واحدة ، والمودة إنما تكون بالنفس ، فواجب أن يكونوا كلهم متحابين متوادين ، وذلك في الناس طبيعة ، لو لم تقدهم النفس الغضبية ، فإن هذه النفس تحبب لصاحبها الترأس ، فتقود صاحبها إلى الكبر والإعجاب والتسلط على المتضعف ، واستحقار الصغير ، وحسد الغني وذي الفضل ، فتنشأ من أهل هذه الأسباب : العداوات ، وتتأكد البغضاء بينهم ، فإذا ضبط الإنسان نفسه الغضبية ، وإنقاد لنفسه العاقلة صار الناس كلهم له أحبابا ، وإخوانا .
وإذا أعمل الإنسان فكره : رأى ذلك واجبا ، لأن الناس إما أن يكونوا فضلاء ، أو نقصاء .
فالفضلاء تجب عليه محبتهم لموضع فضلهم ، والنقصاء تجب عليه رحمتهم لموضع نقصهم .
فيحق لمحب الكمال : أن يكون محبا لجميع الناس ، متحننا عليهم رؤوفا بهم ، وخاصة الملك والرئيس ، فإن الملك ليس يكون ملكا ما لم يكن محبا لرعيته ، رؤوفا بهم ، وذلك أن الملك ورعيته بمنزلة رب الدار ، وأهل داره ، وما أقبح رب الدار أن يبغض أهل داره ، ولا يتحنن عليهم ويحب مصالحهم .
.................................................
( 1 ) في الأصل : “ هي “ .
وينبغي لمحب الكمال أن يجعل همته فعل الخير مع جميع الناس ، وإنفاق ما يفضل من ماله فيما يبقى له الذكر الجميل بعد موته ، ويتحرز من فعل الشر ، فإنه إذا حاسب نفسه : علم أن من فعل الشر فإنه يفعله لخير لا يعتقد “ 1 “ أنه يصل إليه ، وربما كان غالطا .
وإذا علم أن الأمر على هذه الصفة كان واجبا عليه أن يطلب الخير الذي يرومه من طريق غير طريق التشرر ، إذا كان هو الغرض المطلوب : لا فعل الشر .
فأما إن كان تشرره يلحقه أسفا وغيظا ، فليعلم أنه إذا سكن غيظه ، وجد ذلك المقصود بالشر : غير مستحق لذلك الفعل ، ففعل الشر قبيح ، وخاصة بمن قد جمع الفضائل .
إلّا أن يكون ذلك الشر تأديبا على جرم ، واقتصاصا من جان ، فإن هذه الحال مستحبة محمودة ، بل لا يعد شرا ، لأن ذلك الشر إنما يصل إلى الجاني فقط ، ويكون منه نفع عام لجميع الناس ، بأن يرتدع أمثاله من الجناة ، وتكون المنفعة فيه أكثر ، من أجل ذلك لا يعد شرا .
وإذا اعتمد الإنسان فعل الخير ، وألفه ، وتجنب الشر ، واستوحش منه : لانف من الأخلاق المكروهة ، التي تعد شرا كالحسد ، والحقد ، والخبث ، والخديعة ، والنميمة والعيبة .
والواقعية ، وأمثال هذه العادات .
وإذا فكر العاقل المحصل فيها : علم أنها غير مجدية عليه نفعا ، وهي مع ذلك تشينه وتقبح صورته .
وإذا كان محبا للتمام ، مستشرفا للكمال ، كان واجبا عليه تجنب هذه الأخلاق .
.....................................
( 1 ) في الأصل المطبوع “ ليعتقد “ .
وينبغي لمحب الكمال : أن يعتقد أنه ليس شيء من العيوب والقبائح خافيا عن الناس ، وإن اجتهد صاحبها في سترها ، فلا يطمع نفسه في ارتكاب فعل قبيح يظن أنه ينكتم عن الناس ، حتى لا يقف عليه أحد “ 1 “ .
ويجب أن يعلم أن الناس بالطبع موكلون بتتبع عيوب الناس :
وتعييرهم بها ، وذلك في الناس غريزة ، والسبب فيه أن الإنسان ما لم يبلغ التمام ، فليس يخلو من تقصير يعاب به ، ويسوؤه أن يكون غيره أفضل منه ، فهو يسر أن يكون الناس كلهم نقصاء ، ليساووه في النقص ، ويخلوا دونه ، فهو أبدا يتتبع معايب الناس ، ويعيرهم بها ، ليرى الناس أنه أفضل ممن فيه ذلك العيب ، ويشعر نفسه أيضا ذلك ، لتطيب بما فيها من العيوب .
فليس شيء من العيوب بخاف عن الناس ، وإن اعتمد ستره .
وقد يظن كثير من الملوك والرؤساء : أن عيوبهم مستورة عن الناس ، غير بادية ، وذلك لموضع هيبتهم ، وعظم سطوتهم ، يستشعرون أن حاشيتهم وخواصهم لا يجسرون على إظهار أسرارهم إن وقفوا على شيء منها ، وهذا نهاية الغلط ، لأن خواص الملك وحاشيته ، كما أنهم عنده ثقات أمناء ، كذلك لكل واحد منهم خاص وثقة يخرج إليه بأسراره ، والذي لا يستر أسرار نفسه ، فمحال أن يستر أسراره غيره “ 2 “ .
.......................................
( 1 ) مصداق قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : “ لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لأخرج عمله للناس كائنا من كان “ رواه الإمام أحمد ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، والحاكم .
( 2 )إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذي يستودع السر أضيق
وهذا الحال : طريقة إلى انتشار معايب الملوك ، الذين يظنون أنها مستورة .
والعلة في ظنهم أنها مستورة هو : أنهم لا يسمعون أحدا يذكرها ، ولا أحدا يتنصح إليهم بها ، فيظنون أنها خفية .
فإذا أحب الإنسان أن يعلم أن عيوبه غير خافية ، فليعد إلى نفسه ، ولينظر : هل يعرف لأحد عيبا كان يستره ويخفيه ، فإنه يجد للناس عنده عيوبا كثيرة قد اجتهدوا في سترها ، وحرصوا على صونها .
ومنهم من يظن أنها خفية .
ومنهم من يعلم : أنها قد انتشرت بعد الستر .
فإذا علم أنه عارف بأسرار كثير من الناس كانت مستورة ، فمن الواجب أن يعتقد أن عيبه غير خاف ، ولا منكتم ، وأن الناس يعرفون من عيوبه أكثر مما يعرف من عيوبهم .
فينبغي لمحب الكمال : أن يعتقد أن عيوبه ظاهرة ، وإن اجتهد في إخفائها ، وليس بتام من عرف له عيب ، ولا طريق إلى التمام إلّا باجتناب العيوب بالكلية ، والتمسك بالفضائل في سائر الأمور .
وهذه الرتبة غاية تمام الإنسانية ، ونهاية الفضيلة البشرية ، وواجب على كل إنسان : الاجتهاد في بلوغها ، واستفراغ الوسع في الوصول إليها ، لأن التمام مطلوب لذاته ، والنقص مكروه لعينه .
وأحق الناس بطلب هذه الرتبة ، وأولاهم بالتحمل لبلوغ هذه المنزلة : الملوك والرؤساء ، وأشراف الناس ، وأعظمهم قدرا .
وما أقبح بالشريف العظيم أن يكون ناقصا .
فالملوك إذا ينبغي أن يكون أشد الناس حرصا على بلوغ
الكمال ، لأن الكامل من الناس ، الجامع للفضائل : مترتب بالطبع على الناقص من الناس .
فالإنسان التام : رئيس بالطبع .
وإذا كان الملك تاما جامعا لمحاسن الأخلاق ، محيطا بجميع المناقب ، كان ملكا بالطبع .
وإذا كان ناقصا كان ملكا بالقهر .
وما أولى بالملك : أن يرغب في الرئاسة الحقيقية التي لا تكون بالقهر والشرف الذاتي ، لا ما هو بالوضع .
فالواجب : أن يصرف الملك همته إلى اكتساب الفضائل ، واقتناء المحاسن ، ويطلب الغاية في المكارم ، ويستصغر الكبير منها ، حتى يحوز جميعها ، ولا يرضي بالنهاية ، حتى يزيد عليها .
فإنه إن رضي برتبة فوقها رتبة لم يصل أبدا إلى التمام .
وإن أبعد الناس من التمام : من رضي لنفسه بالنقصان .
فإذا طلب الملك الكمال ، فأول ما يجب أن يعتاد : عظم الهمة ، فإن عظم الهمة يصغر في عينه كل رذيلة ، ويحسن له كل فضيلة .
وإذا عظمت همة الملك سلم من الأعجاب بملكه ، ورأى نفسه وهمته : أعظم قدرا من أن يستكبر ذلك الملك .
وإذا احتقر الملك ملكه الذي به عزه وعظمته ، طلب لنفسه ما يعظمها بالحقيقة ، وليس يعظم النفس إلّا الفضائل .
ثم : ينبغي له أن يكره الملق “ 1 “ ، ويبغض المتملقين وينهاهم عن تلقيه به .
...........................................
( 1 ) بفتح الميم واللام : النفاق ، وإظهار غير ما يخفي .
وملاك أمره : أن يتعرف عيوبه حتى يمكنه توقيها والتحرز منها ، وهذا في الملوك صعب ، لأن الإنسان بالطبع يخفي عليه كثير من عيوبه .
فالذي يخفي على الملوك أكثر لإعجابهم بمحاسنهم ، وعظم مرتبتهم .
وأيضا فإن الرعية والسوقة ، يبكتون بعيوبهم ، ويعيرون بها ، فهم يعرفونها .
والملوك : لا يجسر أحد على تبكيتهم ، فلا يقدم أحد على تبكيتهم على عيوبهم ، لأن الناس أجمع : يقصدون التقرب إلى الملوك يملقهم ، فلا يقولون لهم إلّا ما يحبون ، لينالوا الحظوة عندهم .
فعيوب الملوك أبدا خفية عنهم .
وينبغي للملك إذا أحب أن يتنزه من العيوب ، ويتطهر من دنسها : أن يتقدم إلى خواصه وثقاته ، ومن كان يسكن إلى عقله وفطنته من خدمه وحاشيته ، فيأمرهم أن يتفقدوا عيوبه ، ونقائصه ، ويطلعوه عليها ، ويعلموه بها .
وينبغي له أيضا : أن يتلقى من يهدي إليه شيئا من عيوبه بالبشر والقبول ، ويظهر له الفرح والسرور بما أطلعه عليه .
بل المستحسن منه : أن يجيز “ 1 “ الذي يوافقه على عيوبه أكثر مما يجيز المادح له على نقصه ، ويتحمل لومته على فعله ، فإنه إذا لزم هذه الطريقة ، وعرف بها : أسرع أصحابه وخواصه إلى تنبيهه على عيوبه ، وإذا نبه على ما فيه من النقص : أنف منه ، واستشعر أولا أن
..........................................
( 1 ) يجيز : يعني يعطيه جائزة .
سيعيرونه به ، ويصغرونه من أجله ، ويلزمه حينئذ أن يأخذ نفسه بالتنزه من العيوب ، ويقهرها على التخلص من دنسها ، فإذا فعل ذلك ، وتوفر على اقتناء الفضائل ، وألزم نفسه التخلق بالمحاسن ، ولم يرض من منقبة “ 1 “ إلّا بغايتها “ 2 “ ، ولم يقف واجتهد فيما يحسن سياسة نفسه عاجلا ويبقى له الذكر الجميل آجلا ، لم يلبث أن يبلغ الغاية من التمام ، ويرتقي إلى النهاية من الكمال ، فيحوز السعادة والإنسانية والرئاسة الحقيقية ، ويبقى له حسن الثناء مؤبدا “ 3 “ وجميل الذكر مخلدا .
فقد أتينا على صفة الإنسان التام الجامع لمحاسن الأخلاق والطريق التي تؤديه إلى هذه الرتبة ، وتحفظ عليه هذه المنزلة .
وقدمنا : ما يجب تقديمه من “ سياسة الأخلاق وتهذيب النفوس “ : فما أولى من نظر في هذا القول وتصفحه ، وفهم مضمونه وتدبره : أن يأخذ نفسه باستعمال ما بين فصوله ، ويسوس أخلاقه مما يتطرق إلى الذي قنن “ 4 “ في تضاعيفه ، ويجتهد كل الاجتهاد في تكميل نفسه ، ويستغرق غاية الوسع في طلب تمامه ، فما أقبح النقص بالقادر على التمام ، والعجز من المستعد لنيل الكمال .
وهذا حين نختم القول ب “ تهذيب الأخلاق “ .
والحمد للّه .
وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله وصحبه .
.............................................................
( 1 ) أي فضيلة من الفضائل .
( 2 ) الغاية : نهاية المقصود .
( 3 ) أي مدة حياته وبعد مماته .
( 4 ) قنن : أي وضع قوانين يعمل بها الناس .
بعض كتب الشيخ الأكبر
[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]
شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:
[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]
شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:
[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]
بعض الكتب الأخرى:
[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]
بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:
[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]