المكتبة الأكبرية
*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***
*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***
رسالة تهذيب الأخلاق
تنسب للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه الذي ألهم الصفوة من عباده اتخاذ الخلوات .
ونزه أسرارهم وخواطرهم فيها عن الجولان في ملكوت الأرض والسماوات .
ونصبها مثالا لاحديته من أكثر الوجوه والجهات .
وجعل نعتهم فيها نعته في وحدانيته من عدم الحركة والالتفات .
وقدسهم فيها عن صفات القدم تقديسه في وحدانيته عن صفات المحدثات .
فهم فيها طالبون وجودهم في عينه طلبه وجودهم في عينهم ، إذ “ كان ولا شيء “ 1 “ “ ،
فقابل سورا بسور ، وآيات بآيات ، ومنحهم فيها أمورا يقرعون بها أبواب أهل التجليات
المفنيات ، ويفتحون بها دروبا للتنزلات المنزهة عن حمل الملقيات المرسلات . خلع
عليهم فيها من الخلع ما يقتضيه استعدادهم فيما يطابقها من الحضرات ، فإن الأرواح
المنشئات بالنفخ الإلهي ، بين الآباء العلويات ، والأمهات السفليات ،
.................................
( 1 ) قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : “ كان اللّه ولا شيء معه “ رواه مسلم .
خرجت على صورة استعداد الأمهات ، وبه وقع التفاضل بين هذه الذوات ، فلا تجدها تكرر
على شخصين : لما ذكرناه من اختلاف هذه الهيئات .
فلا يزالون في خلواتهم من تخليص هذه القلوب من علل تجليات الألوهيات الخيالية ،
وإماطة ما يأتي به من الكشوفات الوهميات .
وهذا التجلي الوهمي ، هو الذي أدى بعض المخذولين ، المعدول بهم عن طريق الحق : أن
يقولوا بنفي الغير والسوى في توحيدهم ، ثم يجعلون له لسانا وكلمات “ 1 “ ، فناقضت
دعاويهم ، إذ كانوا : لا يدرون ، ولا يدرون أنهم لا يدرون ، وهذه أعظم الجهالات .
ومن هذا الموطن - بحكم هذا التجلي الخيالي - زل من زل أسفل الدركات .
ومنه : علا من علا : إلى الدرجات .
وهذه الألوهية الخيالية هي التي رأى ابن صياد “ 2 “ عرشها على البحور الزاخرات ،
مقابلا للعرش الحقيقي : الكائن على الماء - كما ورد في الآيات - ، فأخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أن ذلك عرش إبليس : تقريرا للعرشين ، وبيانا للفرق بينهما عند أهل
الفطر السليمة المستقيمة والإدراكات “ 3 “ ،
......................................................
( 1 ) يعني - واللّه أعلم - كيف يقولون بنفي السوى ، مع أنهم يقولون : إن له لسانا
يتكلم به - سبحانه وتعالى - عن ذلك علوا كبيرا .
( 2 ) هو الدجال الذي ظهر في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وأراد سيدنا عمر
أن يقتله فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : “ أن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن
لا يكنه ، فلا خير لك في قتله “ ، وأخباره واردة في الصحاح ، والحديث له شهرة تغني
عن تخريجه .
( 3 ) كل من كانت فطرته أسلم : كان إدراكه أكثر .
“ 427 “
فسبحان من فطر الإنسان على العالم وعليه “ 1 “ ، وجعل العين المقصورة غده “ 2 “ ،
فكانت الكائنات .
فمن ثبت قدمه في عبوديته ، بعد تحصيل هذه المعرفة من طريق الكشف ، فهو الخليفة :
صاحب الأسماء والنعوت والصفات .
ومن زلت قدمه عن عبوديته في هذا المقام حلت به المثلات .
فالحمد للّه : حمدا بعد حمد ، لما أسداه من جزيل المنح وجسيم الهبات العلويات [ . .
. وسلّم كثيرا ] “ 3 “ .
وبعد :
فإنك سألت أيها الولي العارف - عرفك اللّه تعالى مالا نهاية - [ له ] من المعارف :
أن أقيد لك صورة الاستعداد الجامع الكلي ، الذي لا يتقيد باسم معين ، ولا بحضرة
مخصوصة ، ولا بتجل مخصوص يوقف عنده ، ولا يتعدى لتلقي ما يناسب هذا الاستعداد الكلي
، من الأسماء المؤثرة وغير المؤثرة ، والحضرات المقيدة وغير المقيدة ، والتجليات
العامة والخاصة ، والتنزلات الإلهية ، والاستنزالات الروحانية ، والاطلاع على
الكائنات الغيبية ، في الحركات الدورية ، وتوالج العوالم ، ومشاهدة كل عالم في
مقامه المعلوم ، وشخصيات تجلي هذه العلوم في مراتبهم ، وصور المعارج والمدارج ،
والنسب الرابط بين العوالم ، والتأثيرات السفلية من الحركات العلوية والبرزخية ،
والتأثيرات العلوية من الحركات السفلية ، وخلق الملائكة والروحانيات العلى ، من
الأنفاس الآدمية ، والحركات البشرية ، وتولد الأرواح من الأجساد ،
....................................................................
( 1 ) هكذا هي في المخطوطة ، والفطر : الشق ، والخلق ، ومنه فاطر السماوات والأرض .
( 2 ) العين : بكسر العين ، ولعله ( رحمه اللّه تعالى ) يرمز إلى الحور المقصورات
في الخيام :
بدليل قوله “ فكانت الكائنات “ .
( 3 ) هكذا هي في المخطوطة .
“ 428 “
والأجساد من الأرواح ، ومشاهدة العالم المهيم والمسخر ، والمدبر ، والتحول والتبدل
في الصور على اختلافاتها ، والاستكشاف على توسع الذات الإلهية ، لتنوع هذه الصور
العرفانية الموقوفة على الجحد والإقرار ، وتنوع المشارب ، ونسبة الحق من العالم ،
والعالم من الحق ، ومن أين تعلق العلم القديم الإلهي بالعالم ، والعالم معدوم .
وإسترسال العالم الواحد على ما لا يتناهي من المعلوم من غير تصور ، العلم التصويري
، والمعلومات المقصورة ، والمعلومات التي لا تتصور ، والوقوف على مقام إحالة شهود
العقل ، ومشاهدة المرتبة التي تفني الإمكان .
والمحال عدم محض “ 1 “ ، فلم يبق إلّا الوجوب ، ومطالعة السريان الإلهي ، الذي يفني
حكم القدر ، وهو توحيد الوجود ، ونفي الاختراع والخلق والتدبير ، وجحود الأسماء
المؤثرة ، إلى أمثال هذا الكشف التام ، والأمر الذي كان به النظام ، مما يرى ولا
يقال .
وسألت في ذلك سؤال عارف بالمصادر والموارد والمواقف ، لما علمت أنه ليس كل استعداد
يعطي الأمر الكلي .
ورأيت أرباب هذه الطريقة قد أقاموا على استعدادات مخصوصة : أنتجت لهم أمورا معينة ،
يشار إليها ، ويقتصر عليها .
وأنفت همتك الشريفة عن الاقتصار على ما وقف عليه هؤلاء ، وإن كانوا سادات وملوكا ،
ولكن أمير المؤمنين : واحد .
..............................................................
( 1 ) لا يمكن وجوده ، لأن اللّه حكم بأنه محال وقضي فيه ، كما لو كان إنسان موجودا
فهو قابل للاعدام ، إلّا أنه وقت وجوده استحال عدمه ، لأنه موجود ، فلا يكون
المخلوق موجودا معدوما في وقت واحد .
“ 429 “
فاسمع يا أخي جواب ما سألت عنه وزيادة ، لينتفع بالزيادة غيرك إذا وقف على هذا
الكتاب ، ممن لا يقدر على استعمال ما سألت عنه .
ولا تأخذ علي في ذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مسألة واحدة فأجاب وزاد
.
فقيل له : يا رسول اللّه : أنتوضأ من ماء البحر ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : “ هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته “ “ 1 “ .
فزاد تحليل الميتة ببيان وإيضاح .
سألت عن الخلوة المطلقة ، ولم تسأل عن الخلوات المقيدة ؟
وأنا أجيبك على ما سألت ، وأزيدك من الخلوات المقيدة : ما تيسر ، فإنها كثيرة جدا ،
ولا أجعل للخلوة حدا زمانيا معلوما - كما وقفت عليه لبعضهم - إلّا الخلوة الصمدانية
خاصة في هذا الكتاب ، فإن حدها بالزمان لخاصية فيها “ 2 “ .
وما حد من حد الخلوات بالزمان إلّا على حسب ما وجد ، فأخباره عن وجد صحيح ، وهو
مخطىء في طرد الحد الزماني ، فإن الأمزجة تختلف ، وفراغ قلوب العباد من الكون ليس
على مرتبة واحدة ، وإنما هو على قدر الباعث والطبع المساعد .
فقد يفتح لواحد في يومين ما يفتح لآخر في شهرين ، ولآخر في سنتين ، ولا يفتح لآخر
أبدا .
……………………………
( 1 ) رواه البخاري ومسلم ، وأبو داود والنسائي ، والإمام أحمد وابن حبان والحاكم
عن أبي هريرة والإمام أحمد ، وابن حبان وابن ماجة والحاكم عن جابر ، ورواه ابن ماجة
عن الفراسي .
( 2 ) ذكر الشيخ ( رحمه اللّه ) أنها ثلاثون يوما ، وسيأتي كلامه عنها .
“ 430 “
وقد يؤهل واحد للإلقاء والتنزيل ، وآخر لكشف الحقائق ، وآخر ما يتعدى به الخيال ،
والمثال ، وكل له مقام معلوم ، وحد مرسوم ، تقتضيه جبلته .
والحد الزماني في الخلق : لا يتصور .
وكذلك الجوع والأغذية : تابعة للمزاج ، فلا تتغير تخصيصا .
ولكن يقال “ بأمر كلي “ فهو أمر يعطي صاحب الخلوة ما يلائم طبعه ، ويؤمن بالقليل
منه حتى يرد الفتح على الاعتدال ، ولا ينحرف المحل إلّا لسلطان الوارد ، فإن
الانحراف بغير وارد سبب قاطع لحصول الخيال والأوهام ، وشهود ما ليست له حقيقة .
وكذلك لا أذكر ما يكشف له من الخلوات ، لوجهين :
الواحد لتعلق النفس بما سمعته ، واستعدادها لتحصيله ، فقد يسيق له التجلي الخيالي
قبل الحقيقي ، فيقول : قد حصل المطلوب وما حصل على طائل ، فإن الخيال لا حقيقة له
في نفسه ، لأنه ليس بعالم مستقل .
والوجه الآخر : إن النفوس غير متساوية في أصل النشيء ، فإنها بحسب تركيب البدن ،
وقبوله للنفخ الإلهي ، من الروح الأقدس ، فقد تنقص نفس عن نفس ، وقد تزيد ، وقل أن
تتساوى ، بل هو محال ، لكن تقرب .
وإن كنت فطنا لما ذكرنا فانظر اختلاف الأغراض في الناس ، واختلاف الشرائع باختلاف
الأوقات لاختلاف الأشخاص ، [ لاختلاف الأحوال ] لاختلاف الحركات العلوية ، لاختلاف
التنزلات ، لاختلاف التجليات وفي الشريعة الواحدة من المشرع الواحد تجد ذلك ، فهو
الذي منعني من ذكر نتائج الخلوات ، فإني ما أصف سوى ما وجدت .
“ 431 “
ما من نبي إلّا واستعد ، وخلا مع ربه “ 1 “ .
و لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً “ 2 “ تقتضيه الحضرة الإلهية ،
فتقتضيه الفطرة التي خلق عليها .
فالواجب علينا : ذكر الداعي والاستعداد والتحصيل : لا ذكر ما يحصل .
....................................................
( 1 ) ومن المشهور المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختلي قبل البعثة بغار
حراء الليالي ذوات العدد .
( 2 ) سورة المائدة ؛ الآية : 48 .
“ 432 “
باب فيما ينبغي أن يكون عليه صاحب الخلوة إن شاء اللّه -
ينبغي أن يكون : شجاعا ، مقداما ، لا يكون جبانا خوارا .
فإن كان حاكما على وهمه ، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهدا في كل ما سوى مطلوبه ،
عاشقا لما توجه إليه ، على ما يقويه من قوة الأمور القواطع ، التي بين يديه ، نافذ
الهمة ، مصدق الخاطر ، ثابتا عند زعقة عظيمة ، أو وقع جدار ، ومفاجئة أمر مهول ،
غير طائش ، كثير السكون ، دائم الفكر ، غائبا عن أكثر الحالات ، ساهيا عن لذة المدح
، وألم الذم ، صاحب قوت طيب “ 1 “ .
[ ومعنى قوت طيب : لا يجد في نفسه عند أكله أثر ريبة ] من باب الورع .
قال بعض أئمتنا : “ما رأيت أسهل من الورع : كلما حاك في نفسي له شيء : تركته".
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم :
“ دع ما يريبك إلى ما يريبك “ “ 2 “ .
....................................................
( 1 ) يعني حلال ، ولذلك فسره بما بعده .
( 2 ) رواه الإمام أحمد عن سيدنا أنس ، والنسائي عن سيدنا الحسن بن علي بن أبي طالب
-
“ 433 “
قائما بما يحتاج إليه من أسباب خلوته : لا يتكلف له أحد ذلك “ 1 “ ، فحينئذ له أن
يدخل الخلوة .
وإن لم يكن على شيء من هذا ، فلا سبيل له إلى الخلوة ، لكنه يستعمل العزلة ، ويدرب
نفسه ، ويهذبها ويروضها بما ذكرنا ، إلى أن يعتاده ، فإن الخير عادة “ 2 “ .
فإذا حصل هذا الأمر : دخل الخلوة إن شاء اللّه تعالى - أي خلوة شاء - : عامة أو
خاصة .
وليقدم صاحب الخلوة بين يديه صدقة : إن كان له شيء .
ولو لم يكن له سوى ثوبين : يتصدق بأحدهما ، أو ثوب واحد ، يمكن أن يباع بثوبين :
يستبدل له بغيره “ 3 “ ، ويتصدق بما فضل .
- والطبراني عن وابصة بن معبد ، والخطيب عن عبد اللّه بن عمر ، والإمام أحمد
والترمذي وابن حبان عن الحسن ، وابن قانع ، وأبو نعيم في الحلية والخطيب عن عبد
اللّه بن عمر .
..........................................
( 1 ) يعني : لا يدخل الخلوة ، وهو متكل على أن الناس يطعموه ، فإن هذا مخالف للشرع
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن الرجل العابد “ من يعوله “ ؟ قالوا “
كلنا “ قال : “ كلكم أعبد منه “ .
( 2 ) يعني إذا فعلت الخير مرة ومرة ومرة ، ثم داومت عليه : أصبح طبعا عندك لا تكلف
فيه ، والخير الكبير : أن يصبح الخير عندك طبيعة .
( 3 ) كما لو كان عنده ثوب من الثياب الغالية الثمن مثلا ، من الممكن أن يبيعه
بثمنه ، ويشتري ثوبين : أحدهما له ، والآخر للصدقة ، وقد سئل رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم عن أفضل الصدقة فقال : “ جهد المقل “ رواه أبو داود والحاكم .
“ 434 “
باب الخلوة المطلقة
أيها السائل : هيأك اللّه سبحانه لاستعداد ما سألت عنه واستعماله .
لتعلم أنك لما سألت عن الاستعداد الكلي : لم يتمكن لي أن أخص به صاحب شرع التنزيل ،
من صاحب شرع الكون .
بل نمشي الاستعداد على حسب ما تعطيه النشأة الإنسانية القابلة عند صفائها ،
وتخليصها لما ذكرناه من هذا الأمر الكلي الذي يقع فيه التفصيل بالعوالم والأسماء ،
وعلى حسب ما تقيد به أيضا من الأمور الشرعية المنزلة عن الأمور والمشيئة ، فأقول :
إن لم يكن صاحب شريعة أمر منزل ، وكان صاحب شريعة :
مشيىء أو مطلق ، فلا بد من أن يلتزم موافقة ما تواطأت عليه النفوس من مكارم الأخلاق
، وترك ذميمها وسفسافها ، ويقيس ما يفعل هذا من فعله ، فقد دخل تحت هذا الأمر
الشرعي “ 1 “ المنزل ، فإنه “ بعث لتتميم مكارم الأخلاق “ .
..............................................................
( 1 ) الأمر الشرعي هنا - واللّه أعلم - قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : “ إنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “ فالداخل تحت هذا الأمر الشرعي ملتزم يجب عليه الوفاء
بما التزم به .
“ 435 “
والحكم عندنا للأحوال “ 1 “ .
وحاله : ما ذكرناه .
فلا بد من الكشف : بلا ريب ولا شك ، لأن الأحوال تطلبه ، لا العقائد والأقوال .
فتفطن فيما ذكرناه ، ولا تقتصر في وجود الحكمة [ لدى ] “ 2 “ بعض الناس .
وإن كان فاعل هذه الخلوة قابلا بالشرع ، معتقدا له ، قائلا به ، فليعلم أنه منقسم
بين : أفعل ولا تفعل ، وإن شئت أفعل ، وإن شئت لا تفعل .
فأما قسم : لا تفعل : فامتثله مطلقا من غير توقف ولا حديث نفس ، ولا تردد “ 3 “ .
وأما قسم : إن شئت ، وهو المباح ، فانظر إن كان فعله يؤدي إلى أن يكون صاحب خلق
عظيم شرعا فافعله .
وإن كان يؤدي تركه إلى ذلك أيضا فاتركه .
وأما قسم : أفعل ، فامتثله امتثال سائس بنفسه ، خائف من شرورها “ 4 “ .
وذلك بأن تطمعها في نتائج ذلك الفعل ، بما يكون لها من
...................................................
( 1 ) يعني لكل حال يحكمه .
( 2 ) الكلمة مطموسة في المخطوطة .
( 3 ) لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : “ إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا “ .
( 4 ) من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : “ أن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ،
فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى “ ، رواه البزار عن سيدنا جابر ، والإمام
أحمد عن سيدنا أنس بن مالك ( رضي اللّه عنه وعن جميع الصحابة ) .
“ 436 “
الشفوف والاختصاص بدرجة الكمال على جنسها “ 1 “ .
ثم أعرف ما يستحق كل عالم من الحيوان الناطق ، والنبات ، والجماد ، مما ينبغي أن
يعامل به من الخلق الذي يوافق غرضه : إذا كان ذا غرض ، مع حفظ الشرع ، وهو كل
الحيوان ، أو ما يوافق الحكمة في عالم الأغراض ، كالنبات والجماد ، وهو ترك العبث
به .
فلا تقلع نبتا ، ولا تفسد نظامه وترتيبه عبثا لغير فائدة تعود منه على حيوان تجلب
بذلك منفعة له ، أو دفع مضرة عنه .
كذلك لا تسل حجرا عن موضعه عبثا .
والجامع في هذا كله : أن ترسل شيئا من حواسك عبثا .
هذا شرط لا بد منه ، فمهما زال انحل النظام .
ثم معرفة الذنوب ؛ صغيرها ، وكبيرها ، خفيها وجليها ، وإنسحاب التوبة عليها ، ورد
المظالم المقدور على ردها ، من عرض ، ومال ، لا من دم “ 2 “ .
وتطهير عالمك الباطني من كل مذموم : شرعا ، وغرضا ،
............................................................
( 1 ) يعني بذلك أن النفس كالفرس الجموح تحتاج إلى رياضة وتدريب ، حتى تعتاد مثل
هذه الأعمال .
( 2 ) روى الإمام أحمد ، والبيهقي والنسائي وابن ماجة قوله صلى الله عليه وسلم : “
لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم اللّه عزّ وجلّ في النار “ ورواه
الترمذي ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني والبيهقي : “ من استطاع منكم
أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم امريء مسلم : أن يهريقه ، كما يذبح دجاجة
كلما تعرض لباب من أبواب الجنة حال اللّه بينه وبينه ، ومن استطاع منكم ألا يجعل في
بطنه إلّا طيبا ، فإن أول ما ينتن من الإنسان بطنه “ .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي والحاكم :
“ كل ذنب عسى اللّه أن يغفره ، إلّا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا
“ ، والأحاديث في هذا كثيرة ، والمقصود بالعرض : الشتم والسب وما إلى ذلك فإن هذه
مقدور على ردها بالاسترضاء ، والمال يرده ، وأما استحلال الفرج الحرام فلا يستطاع
رده ، وإن تاب توبة نصوحا فأمره إلى اللّه تعالى .
وطبعا ، وتقييده عن الجولان في عالم الكون “ 1 “ ، وتفريغه عن الفكر ، فإن الفكر
أضر شيء في هذا الاستعداد ، وفي جميع الخلوات ، لا تصح به أبدا ، ولا يظهر لصاحبها
ثمرة صحيحة إلّا بحكم الاتفاق ، فاللّه اللّه .
احفظ نفسك منه “ 2 “ .
وكذلك حديث النفس ، وتصرفاتها في مراتب الكون ، لا تساعدها على ذلك فإنه تمزيج
وتخليط .
وليكن ذكرك الاسم الجامع الذي هو “ اللّه ، اللّه “ “ 3 “ ، وإن شئت “ هو ، هو “ “
4 “ لا تتعدا هذا الأمر ، وتحفظ أن يفوه به لسانك “ 5 “ ، وليكن قلبك هو القائل ،
ولتكن الأذن مصغية لذلك الذكر ، حتى ينبعث الناطق فيك بالذكر ، فلا تترك حالك التي
كنت عليها ، فإنها قوة عرضية ، إن أخللت بجمعيتك لم تلبث أن تزول سريعة .
وأما قدر ما تلبس من الثياب ، فهو : ما يكون به بدنك
.........................................................
( 1 ) كن مع المكون بكسر الواو المشددة .
( 2 ) الضمير راجع إلى الفكر ، لأن الكلام عنه ، ولفظ الجلالة المكرم : المكرر
مفعول لفعل محذوف ، تقديره : اتق اللّه ، اتق اللّه ، أو خف اللّه ، خف اللّه .
( 3 ) في كتاب “ الأعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام “ للغماري ص 107 ما نصه : قال
الشيخ محي الدين : ومن أراد أن يفتح عليه بذكر هذا الاسم الشريف “ اللّه “ فليتخذ
خلوة ، وليترك سائر الأذكار والأوراد غيره ، ولا يذكره من حيث أنه يدل على العين
فقط ، بل لا بد أن يستحضر أنه يذكر من لا تحصره الأكوان ، ومن له الوجود المطلق
التام ، وهذا الشهود هو المعبر عنه بالبساط “ .
( 4 ) الذاكر بلفظ “ هو “ يضمر في نفسه “ اللّه “ فيكون ذكره : “ هو اللّه “ وإذا
رجعنا إلى القرآن الكريم وجدنا فيه - على سبيل المثال لا الحصر - هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وعرفنا أن “ هو “ اسم إشارة ، واسم الإشارة في النحو
معروف حكمه ، فالذين يعترضون على الذكر ب “ هو “ اعتراضهم في غير محله ، وللّه
الأمر من قبل ومن بعد .
( 5 ) تحفظ بمعنى : احفظ : أي من أن تنطق به ، لأنه في هذه الحالة ذكر قلب : لا ذكر
لسان .
معتدلا ، وليكن من وجه لا يريبك “ 1 “ مثل الأكل سواء .
وليكن عندك حفاظ “ 2 “ نقي يباشر عورتك ، تغسله في أكثر الأوقات “ 3 “ .
ولا سبيل إلى الاضطجاع ، ولا إلى النوم إلّا عن غلبة .
ولتقدم أولا قبل دخولك إلى الخلوة الأولى - أية خلوة كانت :
مطلقة أو مقيدة - رياضة وعزلة عن الخلق ، وصمتا “ 4 “ ، وتقليلا من الطعام وترك شرب
الماء جملة : أجد فيه ، فإنه يسير المؤنة .
فإذا أنست النفس بالوحدة والعزلة : عند ذلك تدخل الخلوة .
.........................................................
( 1 ) بفتح الياء : أي ليس فيه ريبة ولا شبهة من حرام .
( 2 ) سراويل يحفظ فرجك ، وليس المطلوب هو ما يلبسه الناس الآن ، الذي لا يكاد
يواري شيئا ، فإن هذا من لباس الفرنجة ، ونسأل اللّه العافية ، وقد قال رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم :
“ اتخذوا السراويلات ، فإنها من استر ثيابكم وحصنوا بها نساءكم “ رواه ابن عدي ،
والعقيلي .
( 3 ) كان النبي صلى الله عليه وسلم ينضح سراويله بعد الاستنجاء ، ويحض على هذا
مخافة أن يصيب السراويل من البول ما لم يكن الإنسان يعلمه .
( 4 ) أخذا من قوله تعالى : قولي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا قال في القاموس “ والصوم : الصمت “ .
مطلب في بيان كيفية الخلوة وما يختص بها
ومما يختص بهذه الخلوة وبعض الخلوات : ألا يقتل حيوانا أصلا : قملة ولا غيرها “ 1 “
.
وإذا خفت من الهوام في رأسك ، فاحلقه ، وليكن عند دخولك في الرياضة ، وقبل أن يتكون
فيه حيوان .
ولتستعد “ 2 “ ثيابا تستبدلها في أكثر الأوقات ، قبل أن يتعلق بها حيوان ، فيشغلك .
وذلك : ما دمت تحس بنفسك .
فإن شغلت عن هذا كله ، فهو : المطلوب .
ولا تقعد ساعة دون طهارة .
والأساس كله على : التوجه للّه تعالى بالتوحيد المطلق ، الذي
.....................................................
( 1 ) أخذه من مناسك الحج ، فإن الحاج مقبل على اللّه ، فلا يشتغل بشيء مطلقا ، وإن
خاف شيئا من ذلك فليدخل نظيفا تماما حتى لا يشغله شيء عن اللّه : دق أو جل .
وإلا فليس هو في خلوة ، بل هو في “ سهراية “ تحت أشعة الشمس : للتفلي ، وقد ذكر لك
العلاج من ذلك ( رحمه اللّه تعالى ) في الجملة التي بعد هذه .
( 2 ) بمعنى : أعد .
لا يشوبه شرك ، خفي ولا جلي “ 1 “ ، ونفي الأسباب والوسائط كلها جملة وتفصيلا ،
عقدا جزما ، فإنك إن حرمت هذا التوحيد ، فلا بد من الشرك ، فقد تتآدى من الشريك “ 2
“ وهو كون “ 3 “ ، فلا يلوح لك أمر كلي أصلا ، وينحل النظام .
وتحتفظ من الشرك والشك والتعطيل ، فإنه يناقض المطلوب .
ويكفيك ما سامحتك به من شرع الكون “ 4 “ ، وإن كنت عليه ، فهذا هو سبب دخولك في
الشرع المنزل “ 4 “ ، فإنك إذا كشفت الحقائق : لا تقدر على جهل ما علمت ، وانكار ما
شاهدت ، فلهذا سامحتك بشرع الكون ، لمعرفتي برجوعك إلى الحق ، ووقوفك عند الأذن
الإلهي ، فاشترطت التوحيد ، وهو الباب الأول الإيماني ، فإنه قال : “ قل لا إله
إلّا اللّه “ لأهل الشرك والشك “ 6 “ .
......................................................
( 1 ) فيه الرد الكامل على ما يزعمه بعض الذين دأبوا على تكفير عباد اللّه دون حياء
من اللّه تعالى .
( 2 ) في القاموس آدي فهو مؤد : قوي ولعله يقصد - أي يصيبك منه قوة فلا تصلح لما
أنت فيه ، هذا ما عن لي ، واللّه تعالى أعلم ، وقال ( رضي اللّه عنه ) في بعض كتبه
- عند الكلام على قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - إني لست كأحدكم ، إنما أبيت
عند ربي فيطعمني ويسقيني “ إذا كان محبوبي ليس كمثله شيء ، فأنا لست كأحدكم “
المركوب يقطع به المسافات ، والدليل يستدل به على الجهات ، منزه عن الحدثات ، لا
يوصل إليه بالحركات ، ولا يستدل عليه بالإشارات ، فمن عرف المعاني عرف ما أعاني “ .
( 3 ) أي تكون هذه الأشياء التي ذكرها ( رضي اللّه عنه ) من الشريك .
( 4 ) شرع الكون : ما يلزمك من أكل وشرب ولبس وغير ذلك مما لا بد منه .
والشرع المنزل هو : ما شرعه لك اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
( 6 ) فإن المؤمن قد شهد أن لا إله إلّا اللّه ، واستقرت في قلبه ، وأما المشرك
فإنه يجاهد - بضم الياء وفتح الهاء - حتى يقولها ويشهد بها ، ويؤدي مستلزماتها من
صلاة وصوم وحج وزكاة وغيرها .
وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم “ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا
اللّه “ دليل واضح على ذلك واللّه تعالى أعلم .
فإنه من لم يثبت غير اللّه تعالى : لم يقل له : أنفه ، فابتناء أساس استعدادك : على
أول الأبواب الإيمانية .
فهذا معنى ما ترجمه البخاري “ 1 “ .
.....................................
( 1 ) قال البخاري في أول كتاب الإيمان : “ وهو قول وفعل ، ويزيد وينقص “ إلى آخر
ما قال ( رحمه اللّه تعالى ) .
باب ما جاء : أن الأنبياء دينهم واحد في هذا المقام وفي بعض الأحكام ، فقد حصلت في
الدائرة والحمد للّه
والصمت : شرط لازم ، لا بد منه .
وأما الأكل فحده : ما دمت تدبر نفسك : ألا تجوع الجوع المشغل “ 1 “ .
ولا تشبع الشبع المثقل “ 2 “ .
ولا تترك الطبيعة تتغذى “ 3 “ منك .
ولا تترك عندها فضلا عن الوقت ، حتى يكون آخر خلاء المعدة أول تحصيل الغداء ، وهو
قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
“ حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه “ “ 4 “ .
...........................................................
( 1 ) أي الذي يشغلك عن العبادة والذكر .
( 2 ) الذي يثقلك فينيمك ، فإنك ما دخلت الخلوة لتنام .
( 3 ) ذلك أنك إن لم تأكل أكلتك .
( 4 ) ونص الحديث : “ ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، حسب ابن آدم لقيمات يقمن
صلبه ، وإن كان لا بد فاعلا ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه “ رواه
الترمذي وغيره .
ولكن من وجه لا يريبك “ 1 “ ولا يتضرر فيه مخلوق بكلفة “ 2 “ .
ولا سبيل إلى أكل حيوان البتة “ 3 “ ، ولا أن تسخر لك في غدائك سواك “ 4 “ ، بل
تستعد “ 5 “ غداءك لخلوتك بيدك “ 6 “ ، ولا يتصرف في تحصيله غيرك : البتة .
وإن جهلت مزاجك ، فاعرض نفسك على الأطباء ، فهم ينظرون في الغذاء الذي يلائم طبعك ،
ويصلح بمزاجك ، ولتقل لهم ما تريد أن تفعله في التقليل وعدم الفضول من أجل التصرف
والحركات والثقل المؤدي إلى النوم والكسل ، فهم يركبون لك غذاء تبقى عليه الأيام
الكثيرة لا تحتاج فيها لغذاء ولا لبراز .
وإنما لم نعين في هذه الأوراق غذاء مخصوصا لما ذكرناه من اختلاف الأمزجة .
...............................................................
( 1 ) أي وجه لا شبهة فيه ، وقد قال سيدنا عمر ( رضي اللّه عنه ) : “ كنا نترك تسعة
أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام “ .
وربما يقول إنسان : ما لهذا وذاك ، فأنا نقول : ترك الشبهة عند الصحابة إلى هذا
الحد ، وترك الشبهة عندنا نحن : أن نتقي ما يؤدي إلى الحرام ، والبون بيننا وبينهم
( رضي اللّه عنهم جميعا وأرضاهم ) : شاسع ، والفرق كبير ، فهم خيرة اللّه لخير خلق
اللّه تعالى صلى الله عليه وسلم وصحبه وسلّم .
( 2 ) فإنك إذا دخلت الخلوة ، وتصدق عليك الناس بالطعام : فهذا ضرر ، وربما كان في
نفس الذي أتاك بالطعام شيء ، فيكون تكلفا ، ويكفيك قوله تعالى :قُلْ ما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ[ سورة ص ] ،
والتكلف هو : اصطناع الإنسان ما ليس من طبيعته .
( 3 ) لأن أكل اللحوم تؤدي إلى قوة شهوة الجماع .
والخلوة إذا جامع فيها المختلي فسدت ، فإن المعتكف لا يجامع النساء ولا يأكل إلّا
الضرور الذي يقيم الأود .
[ راجع باب الاعتكاف من كتب الفقه ]
( 4 ) حتى لا تنشغل بالغير ، فيشوش عليك ، واللّه يتولى هداك .
( 5 ) بمعنى : تعد طعامك بنفسك .
( 6 ) في المخطوطة - بعد “ بيدك “ : كلمة لا تقرأ .
والذين يقرؤون هذه الأوراق كثيرون “ 1 “ فربما يستعمل ذلك الغداء من لا يلائم طبعه
، فيعاقبه اللّه .
هذا ، وإن انحصرت الأمزجة في أمهات “ 2 “ ، ولكن فيها دقائق وتفضيل لا يعرف إلّا
بمشاهدة الشخص في الوقت ، ويحتاج الغذاء - بعد معرفة الشخص - إلى معرفة الزمان
والمكان ، فهذا منعني أن أعين غذاء .
لكن الذي لنا تبيين : الأمر الكلي ، وهو : أن لا تستعمل إلّا الغدا الخفيف ،
الملائم للطبع ، البطيء الهضم ، الشبع “ 3 “ : الذي لا تحتاج معه التصرف “ 4 “ .
....................................
( 1 ) يقصد أنهم قد يقرؤون ، ولا يفهمون ما فيها ، فيستعملون الأدوية خطأ ، فيحدث
الضرر ، ونسأل اللّه السلامة ، وقد قال اللّه تعالى :وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ.
( 2 ) يعني : أصول .
( 3 ) بفتح الشين المشددة وكسر الباء : المشبع .
( 4 ) يكون مغذيا ، ومع ذلك : لا تحتاج معه إلى كثرة دخول الخلاء .
مطلب في بيان الأكل في الرياضة
وأما صورة الأكل في الرياضة “ 1 “ في أول العزلة ، وفي الخلوة ،
فهو : أن تأخذ اللقمة ، وتسمي اللّه سبحانه عليها بذلة وافتقار ، وخضوع وخشوع ،
فإذا ألقيتها في فمك فأكثر مضغها جيدا ، فإذا ابتلعتها ، فاحمد اللّه تعالى الذي
سوغكها حمدا تاما في [ حال : بحضور ] “ 2 “ ومراقبة وتربص
، حتى تعلم أنها قد استقرت في فم المعدة .
ثم خذ بعد ذلك لقمة أخرى ، تفعل فيها مثل الأولة .
هكذا ، حتى تنتهي إلى القدر الذي فيه غداؤك .
وكذلك شربك الماء مصا “ 3 “ وتقطع من نفسك مراوا “ 4 “ .
..................................................
( 1 ) ما تريض به نفسك قبل دخول الخلوة .
( 2 ) هكذا في المخطوطة ، ولعل المقصود : في حال ملازمة لك بحضور قلب مع اللّه
تبارك وتعالى .
( 3 ) كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : “ مصوا الماء مصا ، ولا تعبوه عبا “
. [ رواه البيهقي في شعب الإيمان ] .
( 4 ) وفي قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الذي رواه سمويه في “ فوائده “ .
والبيهقي في شعب الإيمان ، “ ابن القدح عن فيك ، ثم تنفس “ إشارة إلى ذلك .
واعلم أن العطش من الشهوات الكاذبة : جربناه ، فوجدناه كذا ، وجربه غيرنا فوجده
كذلك .
فعود نفسك أن تمسكها عن الماء ، وإن عطشت ، فإنك إن جاهدتها قليلا : تنعمت بها
كثيرا ، وتقيم - واللّه - الشهور الكثيرة ، نعم والسنين : لا تشرب فيها ماء : البتة
، ولا تشتهيه ، ولا يؤثر في مزاجك ولا بدنك ، وتقنع الطبيعة بما تسهل من الرطوبات
التي في الغداء “ 1 “ .
ولهذا نستحب ، بل نوجب المجاهدة والرياضة في العزلة قبل الخلوة حتى يصير ذلك طبعا
وعادة ، ولا تحس النفس به ، كما لا تحس بالعادات ،
فتدخل الخلوة عقيب ذلك : مستريحا ، نشيطا ، طيب النفس ، فارغا من المجاهدة ، خالي
المحل من المكابدة ، مهيئا مفرغا لذكر المذكور ، والتجلي المطلوب ، والوارد الآتي
عليك ، فإن المجاهدة في الخلوة تذهب بجمعية الخلوة التي هي روحها “ 2 “ لأنها شغل
في الوقت ، فتحفظ من ذلك جهدك ، وقدم العزلة ولا بد ، واجعل مجاهدتك فيها حتى تأنس
بذلك ، واندرج منها إلى الخلوة المطلوبة يسرع إليك الفتح إن شاء اللّه تعالى .
ومهما تكلفت شيئا في خلوتك من : سهر ، أو جوع ، أو عطش ، أو برد ، أو حديث نفس ، أو
وحشة ، فأخرج منها إلى عزلتك حتى تستحكم .
........................................................................
( 1 ) يعني بإمتصاص ما في الأغذية من الماء .
( 2 ) يعني أن روح الخلوة : مجاهدة الشهوات ، وتكبد المشاق والمتاعب .
صورة بيت الخلوة وحاله فيها وشروطها
ثم ليكن بيت خلوتك على ما أذكره ، ولتكن أنت على حسب ما نحده لك .
فأما صفة البيت المخصوص بهذه الخلوة ، فينبغي أن يكون بكل خلوة إن أمكن ،
فهو : أن يكون ارتفاعه قدر قامتك ، وطوله قدر سجودك ، وعرضه قدر جلستك .
ولا يكن فيه ثقب ولا كوة أصلا .
ولا يدخل عليك ضوء رأسا .
ويكون بعيدا من أصوات الناس .
ويكون بابه قصيرا ، وثيقا في غلقه .
وليكن في دار معمورة فيها ناس .
وإن تمكن أن يبيت أحد بقرب باب الخلوة ، فهو أحسن .
وأما صورتك فيها ابتداء ، فهو أن تغتسل وتنظف ثيابك ، ولا بد من النية بالتقرب إلى
المتوجه إليه : “ لا إله إلّا هو العزيز الحكيم “ .
ولا سبيل لكثرة الحركة فيها .
ولا تزد على الفرائض والركعتين والرواتب .
والقعود على طهارة .
واستقبال القبلة دائما .
وإذا أردت الحاجة ، فليكن موضع خلائك بعيدا “ 1 “ : قريبا من خلوتك “ 2 “ .
وتحفظ عند خروجك من الهواء الغريب ، فإنه يؤثر فيك تفريقا “ 3 “ زمانا طويلا .
وليكن ماؤك لا يتغير عليك ، وإذا خرجت لحاجة : سد عينيك وأذنيك .
وليكن غداؤك معك في بيتك معدا ، وخلف باب بيتك محفوظا .
ومن شروط هذه الخلوة - بل كل خلوة - إن قدرت - أن لا يعرف أحد أنك في خلوة أصلا “ 4
“ .
وإن كان لا بد أن يعرف ، فلا يعرف ذلك منك إلّا أقرب الناس إليك “ 5 “ في خدمتك ،
ممن يجهل ما أنت عليه ، ولا يعرف ما تقصده .
وإنما يمنع من ذلك لتشوق نفسه إلى النفوس المتشوقة لخروجه : بماذا يخرج ؟
وهي علة كبيرة ، ونحن نحب تقريب الفتح
...............................................................
( 1 ) بمعنى : لا تتبرز في خلوتك .
( 2 ) حتى لا تكثر الحركة والمشي .
( 3 ) لأن الإنسان إذا كان في مكان ، فهو مجتمع على نفسه : محاصر لها في الذكر فقط
، فإذا ما خرج ورأى الدنيا تفرق قلبه وتوزع تفكيره ، واللّه أعلم .
( 4 ) كزوجتك مثلا أو خادمك .
( 5 ) حتى تكون السرية تامة بينك وبين ربك .
على الشخص ، وهذا يبعده ، فإنه لا سبيل إلى الفتح وفي النفس أثر .
فهذه صورة الخلوة المطلقة .
وجري فيها أشياء نبهنا عليها مما يحتاج إليها في الخلوات كلها : العامة والخاصة ،
فلا تحتاج إلى تكراره في خلوة مقيدة .
واللّه المرشد .
وقد ذكرنا صورة ترتيب الفتح في رسالة “ الأنوار “ فلينظر هناك إن شاء اللّه تعالى .
خلوة الهدهد
تدخل الخلوة ، كما أرسم لك ، وتستعمل في غذائك قلوب الهدهد تسحقها وتسفها سفا ،
فإنك ترى عجائب .
ويكون ذكرك لا إله إلّا اللّه رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ “ 1 “ .
........................................................................
( 1 ) وهي الآية التي حكى اللّه أن الهدهد قالها في سورة النمل ؛ الآية : 26 .
الخلوة الصمدانية
أيامها ثلاثون يوما ، لا نوم فيها : البتة .
ومهما نام في هذه الخلوة بليل أو [ فطر ] “ 1 “ بنهار ،
فليستأنف الخلوة من أولها : ينام فيها بالنهار ، ويفطر بالليل من غير شبع ، ولا
يفطر بالنهار .
وإن اتفق أن يكون في رمضان فهو أولى ، وإلّا ففي المحرم ، وذكرها : سورة الإخلاص “
2 “ .
..........................................................
( 1 ) في المخطوطة “ فطر “ .
( 2 ) وهي سورة “ صمد “ ومن معانيه : الذي لا يأكل ولا يشرب ، ولا يحتاج إلى أحد
ويحتاج إليه كل أحد ، ومن داوم عليها لزمه الشبع ، فلا يحتاج إلى كثير أكل ، ومن
شاء فليجرب .
خلوة القرين
“ ذكرها لي جماعة من إخواني ، وأما أنا فما عملت عليها ، من أجل الأسماء التي فيها
“ “ 1 “ .
قال القوم الذين أخبروني بها : يلبس لها كل يوم ثوبا جديدا ، أربعين يوما .
ويكفي الغداء : مرة خبزا بزيت ، ومرة خبزا بزبيب .
ولا يزال يذكر هذه الأسماء عقيب الصلوات الخمس ، وأكثر الحالات : وهي :
“ بهلطف ، سليطيع ، أسماطون ، أطون ، بهكش ، تهكش ، بوب “ .
واعلم : أن صورة الخلوة ، ما ذكرته لك : ثم أنه تختلف الحالات فيها على الإنسان
بحسب أذكاره ، فإن الذكر مع الاستعداد ، هو الداعي إلى الفتح ، ولكن بما يناسب
الذكر الذي يكون عليه صاحب الخلوة .
....................................................................
( 1 ) أعلمك بهذا أنها - واللّه أعلم - شيطانية لا رحمانية ، لأنه قال لك “ من أجل
الأسماء التي فيها “ .
وقد أدخلت مريدا لنا بذكر سهل بن عبد اللّه ، الذي أعطاه خاله ، وهو : “ اللّه معي
، اللّه ناظر إلي ، اللّه شاهد عليّ “ ففتح له به في أربعة أيام .
وأما أنا ففتح لي به في ربع ليلة .
وأدخلت شخصا بيته علي “ سبحان اللّه العظيم وبحمده “ فرفع من ليلته .
ودخل بعض الشيوخ بذكر :
“ لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي
لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير “ .
ولزمه مدة ، ففتح له في التوحيد والتوكل ، فكان واحد عصره فيهما .
ووقفت على أسماء ، وأنا بالمسجد الأقصى ، فعرفتها :
خوطبت بها .
وهي في الخلوة عجيبة ، وهي هذه :
“ عنت وجود الروحانيات العلى ، للسبحات العظمى ، التي فتق بها الرتق . يا علي يا
قيوم ، يا من أوجد الآباء العلويات متحركة ، والأمهات السفليات ساكنة ، بالصفة التي
هي عين الموصوف .
يا من أدار القمرين حول مراكز تداويرهما ، وأدار الدورة الكبرى للسكون والفضل
المبتغى ، المنطوق به على ألسنة الروحانيات العلى .
يا من نظر إلى من نظر إليه .
يا مذل الأعز ، يا قدوس يا أحد ، لك العز الأفخر ، والملك الأكرم ، والملكوت الأفخم
، أثر جلالك : الهيبة في القلوب ، وأنت
المحسان ، تنقل الأطوار والأدوار ، وتعلم ما سكن في الليل والنهار .
يا عظيم : لا أعظم “ 1 “ ، يا كبير ، لا أكبر “ 1 “ ، أنت المقصود بكل همة ،
والمسؤول بكل لسان .
وكذلك خلوة : “ يا حي يا قيوم “ عظيمة الفائدة .
وكذلك : “ يا علي يا عظيم ، يا عليم يا حكيم “ .
وما من ذكر إلّا وله نتيجة تخصه .
فإذا فهمت كيفية حالات الخلوة وصورتها ، فأدخلها بأي ذكر شئت ، فإنه يعطيك ما في
قوته “ 3 “ ولا بد .
ويكفي هذا القدر من التنبيه والحمد للّه وحده ، - .
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم - .
تمت الخلوة المطلقة ، وهو حسبي ، وحفيي .
ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم .
..................................................
( 1 ) في القاعدة النحوية : أن حذف ما يعلم جائز ، لأنه معلوم بالضروة ، فقوله لا
أعظم و “ لا أكبر “ يعني : لا أعظم منك ، ولا أكبر منك ، وقد يكون يريد أن ينهاك عن
أن تذكر يا أعظم ويا أكبر ، وهذا هو المرجح ، واللّه أعلم .
( 3 ) أي ما في قوة الذكر ، واللّه تعالى أعلم .
بعض كتب الشيخ الأكبر
[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]
شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:
[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]
شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:
[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]
بعض الكتب الأخرى:
[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]
بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:
[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]